الحديث الذي بعده صحيح، ولكن قبل أن أشرع فيه لا بد من التذكير بمسألة أصولية حديثية، وذلك لسببين اثنين: السبب الأول: غربة علم الحديث بين خاصة الناس فضلاً عن عامتهم.
السبب الآخر: أن هذه العبارة حينما قال: رواه أحمد ورواته محتج بهم في الصحيح، تفهم هذه العبارة خطأً، بسبب إعراض الناس عن دراسة علم الحديث، فيفهمون من هذه العبارة تصحيح الحديث، وهذا لا يعني كذلك، فقول المؤلف أو المحدث في حديث ما: رجاله رجال الصحيح، أو رواته محتج بهم في الصحيح، أو رجاله ثقات، كل ذلك لا يعني أن إسناد هذا الحديث صحيح، بل ولا يعني أن إسناده حسن.
إذاً: إذا مرت هذه العبارة في كتاب من الكتب التي تطالعونها، فلا يفهمنّ أحد منها تصحيح الحديث ولا تحسينه.
إذاً: ماذا يعني؟ يعني: أن شروطاً من شروط صحة الحديث قد توفرت في إسناد هذا الحديث، ألا وهو ثقة الرواة وعدالتهم وضبطهم، هذا شرط من شروط الحديث الصحيح؛ لأن التعريف المتفق عليه: ما رواه عدل ضابط، هذا هو الثقة، عدل أي: غير فاسق، ضابط أي: ليس بسيئ الحفظ، هذا هو الثقة.
وهذا هو الذي يحتج به في الصحيح -أي: في البخاري ومسلم - لكن ليس هذا هو فقط تعريف الحديث الصحيح: ما رواه عدل ضابط عن مثله فقط، إنما عن مثله عن مثله إلى منتهاه، ولم يشذ ولم يعل.
ولم يعل: كلمة تدخل فيها عشرات العلل، فواحدنا يقول: رواته رواة الصحيح ولا يقول: وليس له علة، لو قال: وليس له علة؛ لصح الحديث حينذاك، ولو أرادوا وصول ذلك لأغناه عن قوله: ليس له علة، ولقال: إسناده صحيح، إذاً: الحديث صحيح.
يأتي
Q لماذا هؤلاء المؤلفون كـ المنذري والهيثمي وغيرهما، لماذا لا يقولون: إسناده صحيح بدلاً من سوء الفهم الذي يقع فيه جماهير الناس اليوم؟
صلى الله عليه وسلم إن علم الحديث لم يهمل إلا من صعوبته، فهاهم علماء الحديث كـ المنذري وأمثاله، لا يقولون إلا ما ندر في إسناد حديث ما: إسناده صحيح، أو إسناده حسن، لماذا؟ لأنه عندما يريد أن يقول القائل في حديث ما: إسناده صحيح أو إسناده حسن، يجب أن يدرس ساعة بل ساعات وربما كان، وهذا فقط إسناد حديث واحد، ولو توخى الإنسان لمثل هذا التحقيق لقضى عمره كله وهو لا يستطيع أن يحقق إلا أقل من نصف الحديث المتداول اليوم في الكتب وغيرها؛ لأن هذا يتطلب دراسة السند الأول إلى آخره، من حيث الاتصال، وسلامته من الانقطاع، وسلامته من التدليس، وأخيراً سلامته من العلة الخفية، وهو أدق علوم الحديث، وهو الذي يسمى بالمرسل الخفي، لذلك علماء الحديث إلا ما ندر -ومن هؤلاء النادرين الحافظ ابن حجر - علماء الحديث لا يقولون: إسناده صحيح إلا إذا ظهر لهم بداهة بدون كلفة.
وإذا ظهر لهم أن الأمر يتطلب بحثاً وذلك مما لا يتسع له وقتهم، لجئوا إلى هذا التعبير: (رجاله معروفون أنهم من رجال الصحيح) أي: البخاري ومسلم، لكن هل هناك علة أم لا؟ يحتاج إلى دراسة ولا يتسع له الوقت، لذلك يقتصرون على هذه الكلمة فلا تفيد هذا الكلمة تصحيح إسناد الحديث ولا تحسينه، وإنما كل ما تعطيه هذه الجملة أن شرطاً من شروط الصحة وجد في هذا الإسناد (موافقة الرجال) إذا قال: رجاله ثقات، وإذا قال: رجاله رجال الصحيح، معنى ذلك أنهم ثقات، أي: أنهم احتج بهم البخاري أو مسلم أو كلاهما معاً.
هذا الذي أردت أن أنبه عليه من الناحية الحديثية، لكن هذا الحديث صحيح، ولذلك تعمدت إخراجه في كتابي سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقمه: (2216) .