ومن الانحرافات: الاحتيال على أحكام الله عز وجل في شريعته فبعد الرد بمثل هذه النصوص التي تدل على أن الصور المحرمة هي -أيضاً- الصور غير المجسمة، مع ذلك فقد احتال بعض الكُتّاب في العصر الحاضر حيلة أظن أنه سبق بها اليهود، أقولها صريحة وستقولونها معي حينما تسمعون ماذا صنع وماذا فعل.
جاء في حديث أبي هريرة الذي فصل لنا امتناع جبريل عليه السلام من الدخول إلى بيت الرسول، مع أنه كان على وعد معه، فذكر له أن هناك تماثيل -أي: صوراً- على الباب وعلى الستارة، فأمر بتغيير الصور التي على الستارة حتى تصير كهيئة الشجرة، ومعنى ذلك: أن هذه الستارة كانت مطرزة وفيها تماثيل -أي: صور- الخيل ذوات الأجنحة -كما في بعض الروايات- فحينما أمر جبريل عليه الصلاة والسلام بتغيير هذه الصورة حتى تصير كهيئة الشجرة، معنى ذلك إضافة خيوط جديدة على هذه الصورة، حتى يقضى على معالم الصورة السابقة وتظهر أنها تمثل صورة شجرة، فأخذ العلماء من هذا الحديث: أن الصورة إذا غيرت خرجت عن التحريم وصارت مباحة، ولكن -مع الأسف الشديد- لم يقفوا عند هذا التغيير الذي حدده جبريل للرسول عليهما الصلاة والسلام، أي: لم يقفوا عند هذا التغيير الكلي الذي به تنطمس معالم الصورة السابقة، وتظهر بعد ذلك صورة أخرى كهيئة الشجرة المباحة، لم يقفوا عند هذا التغيير الشامل، فقالوا مثلاً: لو أردت تغيير الصورة -صورة على الورق مثلاً- فخط خطاً على العنق، زعموا بأن هذه الصورة تغيرت هيئتها، لماذا؟ وزعموا أن الرأس أصبح منفصلاً عن الجسد، ولا يعيش الإنسان بهذه الصورة إذاً: هذه الصورة تغيرت فصارت مباحة! وتسلسل تغيير التغيير -إذا صح هذا التعبير- تغيير المطلق الشامل الذي ذكره الرسول عليه السلام عن جبريل، فضيقوا دائرته فقالوا -كما سمعتم في التغيير الأول-: أنه إذا خُط خط على العنق وبقيت الصورة كما هي فهي صورة جائزة؛ لأنها تغيرت، فهذا تغيير رقم (1) للتغيير الكلي الذي أمر به جبريل عليه السلام في الحديث السابق.
ثم هذا التغيير لم يقنعوا به، فانتقلوا إلى مرحلة أخرى، فقالوا: إذا كانت الصورة نصفية -وهذا بلاء عم وطم- فهذه الصورة جائزة؛ لأن الإنسان لا يعيش بنصفه؛ فلابد أن يكون معه الأرجل والبطن وبقية أجزاء الجسد، فهذه الصورة مغيرة، ونحن نعلم جميعاً أن العبرة في كل شيء وبخاصة في الإنسان إنما هو رأسه، فإذا بقي الرأس وذهبت الرجلان -مثلاً- فلن يقضى على الصورة وعلى أثرها في المجتمع الذي يخشاه الشارع الحكيم ولو في المستقبل البعيد، ومن أجل ذلك فسبب من أسباب حكمة تحريم الصور: حتى لا تُعبد من دون الله عز وجل ولو في المستقبل البعيد.
هذا التغيير رقم (2) .
جاء الكاتب المشار إليه -وهو من علماء الأزهر- فجاء بتغيير فيه العجب العجاب؛ وهو الذي عنيته بقولي: سبق في هذا الاحتيال اليهود؛ فكتب مقالاً منذ القديم حينما كانت تظهر مجلة الأزهر تحت عنوان نور الإسلام، فكتب فيها مقالاً ذكر المذاهب حول الصورة المحرمة، وهما مذهبان: المذهب الأول: مذهب تحريم الصور عامة، بدلالة الأحاديث السابقة.
المذهب الثاني: ويروى عن الإمام مالك، أن الصور المحرمة إنما هي المجسمة.
فهذا الرجل الكاتب المشار إليه دون أن يلتفت إلى هذه الأحاديث وأن يتفقه فيها، تبنى منهج الإمام مالك، وهو مخالف بلا شك لهذه الأحاديث، فهذا المذهب الذي يقول: الصور المجسمة هي فقط المحرمة، تبنى هذا المذهب ذلك الكاتب لغاية في نفسه، ثم توصل من بعد هذه الخطوة الأولى التي انحرف فيها عن الأحاديث السابقة، إلى خطوة أخرى قصيرة جداً قضى بها على كل المذاهب حتى على مذهب الإمام مالك؛ لقد لفق من مذهب الإمام مالك الذي يُحرم -أيضاً- الصور المجسمة مع جماهير العلماء، ومن قال من العلماء: بأن الصورة إذا تغيرت هيئتها كانت حلالاً، لفق من مجموع القولين المسألة الآتية فقال: بناءً على ذلك؛ إذا نحت الفنان -هكذا يقول- صنماً؛ فلِكي يتخلص من التحريم حفر حفيرة في أم رأسه حتى يصل إلى الدماغ، وهو في هذه الحالة -أي: هذا الصنم- يمثل إنساناً لا يعيش؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان وفيه حفرة تصل إلى دماغه، قال: لكن هذا عيب في الصنم -في التمثال- من الناحية الفنية- فهو يعلم الفنانين ما شاء الله! فيقول: يضع شعراً مستعاراً على رأس الصنم، فيظهر الصنم من الناحية الفنية في أتم صورة وأجمل هيئة، وبذلك يتخلص هذا الممثل النحات من أن يخالف أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
فهل علمتم في اليهود من احتال على حرمات الله كمثل هذا الرجل الأزهري؟! هذا مصداق قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) هذا احتيال مما أصيب به بعض العلماء في العصر الحاضر، ولا شك أن الذين يقرءون مقال ذلك الكاتب، وهم من جماهير الناس ممن لا يعلمون هذه الأحاديث وليسوا بفقهاء؛ يتورطون ببيانه، وينطلقون في النحت والتصوير، ويحتالون على ذلك بمثل تلك الحيلة التي تعلمها تلميذ بل شيخ إبليس، هذا تحريفه.