قوله: (من أعطي بي ثم غدر) كأن تقول لرجل: أعطني هذه الأمانة، والله على ما أقول وكيل، أو الله شهيد على ما نقول، أو أعطني هذه بالله، فيغتر الرجل بكلامك ويعطيك، يظنك معظماً لله عز وجل، فإذا أكل الآكل هذه العطية فإن الله عز وجل خصمه، ومن كان الله عز وجل خصماً له فقد خصمه -أي: غلبه- قال تعالى: {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] فإذا دخلت في حمى الملك لا يستطيع أحد أن يصل إليك، وإذا أرادك هو فلا يحميك أحد منه قط، وهذا هو معنى: {يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88] عز جاره، فلا يغلب ولا يؤذى من كان الله عز وجل جاراً له.
فقوله: (من أعطي بي ثم غدر) لأنه لم يقدر الله حق قدره، إذ لو علم قدر ربه لخاف، ولعظم أن يحنث في اسمه، أما الذي يوفي فإن الله عز وجل يسخر له من أسباب الكون ما لا يخطر لأحدٍ على بال، هذا هو جزاء الوفاء.
من وفى لله وفى الله له، وبقدر ما تبذل لربك يبذل الله عز وجل لك من أسباب الفوز، وقد جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل استلف من رجل ألف دينار، فقال صاحب المال للذي يريد أن يقترض منه: ائتني بوزير -وفي رواية: بكفيل- قال: كفى بالله كفيلاً.
قال: ائتني بشهيد.
قال: كفى بالله شهيداً.
قال: صدقت، وأعطاه الألف دينار -بلا مستند- فأخذ الرجل المال وانطلق به يتاجر في البحر، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركباً يؤدي الدين في الموعد المعلوم، فلم يجد مركباً وهدأ البحر -توقفت حركة الملاحة- والرجل الآخر على الشاطئ الآخر ينتظر مركباً ليأتي صاحبه -وعند ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة -: أن الرجل صاحب المال جعل يسأل عن صاحبه الذي اقترض منه المال، فقالوا له: إنه في مكان كذا وكذا.
قال: رب! إني أعطيت المال بك فاخلف عليَّ.
-كأنه ظن أن الرجل غدر به وأكل المال؛ لأنه موجود، سأل عنه فقيل: في المكان الفلاني طيب لماذا لم يأت؟ - قال: رب إني أعطيت بك فاخلف عليَّ.
والرجل ينتظر مركباً ولا يجد، فلما يئس نظر إلى السماء، وقال: رب! أنت وكيلي -يعني: ماذا أفعل وقد أخذت المال بك؟ وماذا يقول الرجل عني؟ يظن أني غدرت، حنثت، كذبت، جعلتك جنة حتى أخذت المال بك.
هناك بعض الناس -والعياذ بالله- الله تبارك وتعالى عندهم رخيص، فتجده يحلق بأغلظ الأيمان لدرهم واحد وهو كاذب، يحلف بالأيمان الغلاظ التي تدخل أمة كاملة في جهنم، اليمين الغموس هو أحد الكبائر والموبقات الذي يجعل الديار بلاقع، الرجل يبذل يميناً يقتطع بها حق امرئ مسلم، فما أهون الله عند هؤلاء! الرجل حزين واقع في كرب حائر تأكله الهواجس، فلما قال: رب! أنت وكيلي، أخذت المال بك، فأوصل هذا المال إلى صاحبه، ونقر الخشبة ووضع الكيس فيها مع رسالة من صاحبه، وقذف بها في البحر فابتلعها الموج، وكان الرجل على الشاطئ الآخر ينتظر، فلما يئس أن يأتي صاحبه وجد خشبة تروح وتجيء أمامه -ومعنى حركة الملاحة متوقفة، أي: أن البحر هائج وهناك رياح عاصفة وأمطار غزيرة وبرد- فقال: آخذ هذه الخشبة أستدفئ بها، فأخذها، فلما ذهب إلى الدار ألقاها إلى امرأته، وقال: أوقدي بها، فكسرت المرأة الخشبة فنزل منها الكيس، فقرأ الرسالة في الكيس وعد المال، وكان الرجل الآخر ينتظر مركباً حتى وجد أول مركب، فركب وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحبه؛ فقال: هذا أول مركب.
قال: هل أرسلت إليَّ شيئاً؟ قال: أقول لك هذا أول مركب.
قال: ارجع راشداً فقد أدى عنك وكيلك).
وفي صحيح ابن حبان: قال أبو هريرة: (فلقد رأيتنا يكثر لغطنا ومراؤنا عند النبي عليه الصلاة والسلام أيهما آمن من صاحبه -من أشد إيماناً من الآخر- الذي أعطى المال بالله بلا مستند، أم الذي رمى بالمال في البحر وهو لا يضمن أن يصل هذا المال إلى صاحبه).
فإذا جعلت الله وكيلك كان أفضل منك، وكان أرعى للأمانة منك، كما يقول بعض العلماء: إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب كان لك من الحظ أفضل منه، فقيل له: لم؟ قال: لأنك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثل ذلك، ودعاء الملك أثقل من دعاء العبد بنفسه، ملك، مسخر، مطيع، لا يعصي ربه أبداً، فإذا قلت: اللهم اغفر لأخي، وارزقه، وارحمه؛ قيض الله لك ملكاً يقول: ولك بمثله.
فدعاء الملك لك أثقل من دعائك لأخيك.