تدرج يوسف عليه السلام في الدعوة وحكمته فيها

وهذا من ذكاء الداعية وفطنته إذا دخل على أناس لا يعرفهم، يهش ويبش لهم، ويمد جسور الود، هكذا كان صنيع الأنبياء، ولكل غريب دهشة، فيكون بينك وبينه حاجز لا يكاد يوصل كلامك، لذلك ناداهما يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] فأنزلهما منزلة الصاحب: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] سؤال منطقي جداً، يبدأ يزلزل عقائد هؤلاء بمثل هذا السؤال البدهي، الذي لا يحتاج إلى كبير علم؛ لأننا نعرف هذا من أنفسنا.

لو أن هناك خادماً وله أكثر من سيد، فهو أشقى الناس، هذا يأمره وهذا ينهاه، وإذا تخاصم السادة شقي أكثر؛ لأنه كلما أرضى أحداً غضب عليه غيره، ولكنه إذا كان له سيد واحد استراح.

ثم بدأ يتدرج في الهجوم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف:40]، وأكثر أهل الأرض أدعياء حتى في الآلهة التي يسمونها، أي: كثيراً ما يذكرون الشيء بلا مضمون، كم من الذين سموا بأمين الصندوق فظهر أنه خائن! والشاعر الأندلسي كان له حق أن يتوجع من كثرة ألقاب ملوك الأندلس، الذين ضيعوا الأندلس، تجد الواحد منهم يشرب خمراً ولقبه محيي الدين، ورجل آخر يتعامل مع الأعداء ويلقب بعضد الدين، وآخر سيف الملة، فقال الشاعر الأندلسي يتوجع من هذه الظاهرة: مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتصم فيها ومعتضد أسماء مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد اسم لكن لا مضمون تحته.

ماذا يعبدون من دون الله؟ يعبدون حجارة، يعبدون موتى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] إذاً: هذه مجرد أسماء، سمه القوي! القادر! العزيز! لكنه مهزوم، ما هو بقوي ولا قادر ولا عزيز، فهي مجرد أسماء وشعارات جوفاء لا مضمون تحتها.

ماذا تعبدون يا أصحاب السجن؟ مجرد أسماء: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015