عندما أختلف مع أي عالم كان، فلابد أن أراعي الفرق بيني وبينه، وقد أكون أنا لم أهتد إلى هذا العلم إلا على يد هذا الرجل، فكيف أعامل هذا الشيخ -أياً كان هذا الشيخ- مثل هذه المعاملة؟! إن هذا يعد من العقوق.
ألا ترى موسى عليه السلام لما ذهب إلى الخضر عليه السلام، وطلب منه أن يعلمه، ماذا قال له؟ {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، انظر جمال السؤال! حاجته صاغها في سؤال حتى يتيح الفرصة للشيخ ليقول: نعم أو لا، فهو لم يفرض نفسه فرضاً، وكذلك انظر إلى كلامه (هل أتبعك) فجعل نفسه تابعاً، ولا شك أن التابع أقل من المتبوع، وموسى كليم الله، وهو عند جميع أهل السنة أفضل من الخضر، لا شك في ذلك، بل لعله عند جميع أهل الأرض أفضل من الخضر عليه السلام؛ لأنه من أولي العزم، والخضرفي نبوته خلاف، لكن موسى عليه السلام ليس في نبوته ولا رسالته خلاف، يقول: (هل أتبعك) -فخفض نفسه ورفع الخضر؛ لأنه أستاذه في هذه المسألة- (على أن تعلمن) -فنسب نفسه للجهل ونسب شيخه للعلم؛ لأن الرجل يريد أن يتعلم، (على أن تعلمن مما)، (من): تبعيضية، أي: بعضاً مما عندك، فأشار إلى كثرة علم شيخه، (من ما) و (ما) هذه من صيغ العموم، فيدل على أن شيخه شمل جملة العلوم، وهذه تؤيد البعضية التي ذكرناها (من ما عُلمت) كلمة (علمت) مبنية للمجهول، يرقق قلب الشيخ عليه، كأنه قال له: كما علِّمت رُدَّ الإحسان وعلمني (مما علمت رشداً)، واشترط عليه أن يأخذ منه الرشد دون الغي، وهذا هو الأصل في تلقي العلم، وأنت لو حاولت أن تتأمل في هذه الآية وتتبحر فيها ربما تجد أيضاً آداباً أخرى.
فانظر إلى لطافة السؤال، وأنت حين تدخل على الشيخ بهذا الأسلوب فإنه يرق قلبه لك، وهذه من الآداب، قال ابن جريج: لقد استخرجت ما عند عطاء من العلم بالرفق.
ابن جريج لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، واستخرج علم عطاء بالرفق، وقال الزهري: لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً بمماراته ابن عباس؛ لأنه كان كلما جلس مع ابن عباس يماريه ويجادله، فأنا لو أعلم أن أحداً كلما جلست معه يماريني فلن أتكلم لماذا؟ أريد أن أريح دماغي.
لكن أوليس المقصود من الجدل عموماً تقرير الحق؟ فإذا كان الطرف الآخر إنما يجادل لغرض الجدل، فالصواب ألا أتكلم، فـ أبو سلمة بن عبد الرحمن من كثرة ما كان يماري ابن عباس خسر ما عنده من العلم.
فالإنسان إذا تلطف حصّل مراده، ولذلك قال الشاطبي في الموافقات: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود)، وساق تحت هذا العنوان، أو تحت هذه الكلمة فصلاً نافعاً جداً في أدب الطلب، ترك الاعتراض على الكبراء محمود لاسيما إذا كانوا من أهل العلم النافع والعمل الصالح، وإذا كانوا مبرزين في العلم والتقوى؛ لأن الإنسان قد يعترض على ما لم يدركه علمه.
وذكر الشاطبي رحمه الله اعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو لما جاء يرسف في أغلاله وقد عذب في الله عذاباً أليماً، فكان سهيل بن عمرو مازال يتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الاتفاق، فكان منها أنه إذا أتاك رجل مسلم فاراً بدينه ترجعه إلينا، وإذا فر رجل من عندك كافراً لا نرجعه، فقال المسلمون: سبحان الله نرجعه وقد جاء مسلماً! وهم في حال تحدثهم جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في أغلاله، فرمى نفسه بين ظهراني المسلمين وقال: يا معشر المسلمين! ألا ترون ما أصابني؟! وأبو جندل هو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الاتفاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! هذا أول ما أطالبك به أرجعِه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لم يقض الكتاب بعد، قال: أبداً.
فقال: فأجزه لي.
أي: سنكتب الكتاب كما تريد، ولكن هذا نستثنيه.
قال له: لا.
قال: بل أجزه لي.
قال له: لا.
فكان الموقف في نظر عمر بن الخطاب وسائر المسلمين موقفاً في منتهى الذل، فما الذي يجبرنا على هذا؟ نحن نستطيع أن ندخل عليهم فنأكلهم أكلاً، لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ لذلك لم يتحمل عمر واعترض، وقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألستَ رسول الله حقاً؟ قال له: بلى.
قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قال: أولم تقل لنا أنا نطوف بالبيت؟ قال: قلت لك نطوف به العام؟ فقال له: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به)، لكن الكلام لم يقنع عمر، لأنه ثائر فلم يتحمل هذا الذل، فقام إلى أبي بكر الصديق، فقال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى.
قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله وليس يعصيه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه.
العجيب في المسألة توافق الكلمات بين أبي بكر الصديق وبين النبي عليه الصلاة والسلام! نفس الكلام الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف قاله أبو بكر الصديق، لكنه زاد عليه (استمسك بغرزه)! قال عمر بن الخطاب: فعملت لذلك أعمالاً أي: تصدق وصام وما إلى ذلك؛ ليكفر عن هذا الاعتراض.
فـ الشاطبي تحت هذا العنوان الجميل ذكر هذه القصة، قال: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود) لاسيما -كما قلت- إذا كان هذا الكبير ضليعاً بعلم الكتاب والسنة؛ لأن عنده من المدارك ما ليس عندك فتسلم له، لاسيما إذا لم يكن في يدك دليل واضح على رد قول هذا العالم.
فليس من الأدب ولا من الإنصاف أن لا يعترف الإنسان لهؤلاء بالفضل.
ابن جرير الطبري رحمه الله -وهو أحد العلماء الكبار جداً- كان له مذهب اسمه (المذهب الجريري) لكن هذا المذهب اندثر في جملة ما اندثر من المذاهب، كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد؛ لأن تلاميذه لم يقوموا به، قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير -وكان يملي من حفظه- قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار.
قال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة مختصراً، وهو الآن في ثلاثين مجلداً، مطبوعة بالأحرف الصغيرة، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله وأخوه الشيخ محمود شاكر حفظه الله كانوا قد بدءوا يحققون تفسير الطبري، فوصلوا في ستة عشر مجلداً إلى سورة الرعد، ولو أكملوا لكانوا وصلوا إلى المجلد الثمانين.
فقال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ! قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: نحواً من التفسير، قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه أيضاً في نحو مما أملي فيه التفسير.
هذا الإمام الكبير لما دخل عليه بعض عواده وهو في مرض الموت تناقشوا في مسألة من مسائل المواريث، فدعا ابن جرير بقرطاس ودواة ليكتب له هذه المسألة لأنه أول مرة يسمعها، فقيل له: أفي هذه الحال -أي: وأنت تموت-؟! قال: أترك الدنيا وأنا بها عالم خير من أن أتركها وأنا بها جاهل.
وإن كان لا يترتب عليها عمل عنده؛ لأن الاستكثار من العلم جيد، وليست فيه مضرة.
إن العلم يحتاج إلى عمر، نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى ألا يستعجلوا، قال الإمام الشافعي: (فكلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي)، ولا شك أن الذي نجهله أكثر من الذي علمناه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يؤدبنا وإياكم بأدب النبوة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم