الذكاء

أما الذكاء فهو أول درجات السلم، إن العلم لا يسلم زمامه لغبي ولا بليد، لابد أن يكون طالب العلم ذكياً جداً، نحن ابتلينا بأناس تصدروا للفتيا ليس عندهم ذكاء، لأن الذكاء يورث ما يسمى عند الفقهاء: بفقه النفس، وفقه النفس: هو مراعاة مقتضى حال المخاطب.

جاء رجل وطلب منك فتوى، فأنت لابد أن تتفرس في الرجل وتزنه، وهذه الفراسة كانت موجودة عند أسلافنا بكثرة، لكنها أصبحت الآن أندر من الكبريت الأحمر.

وقد صح عن ابن عباس أنه كان يجلس مع بعض أصحابه كـ سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس، فجاءه رجل فقال له: (ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا.

فلما مضى الرجل قال له أصحابه الجلوس: أولم تفتنا قبل ذلك أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: بلى، ولكني رأيت في عينيه الشر).

فالسائل يريد أن يقتل، وجاء مسعوراً، ويريد أن يأخذ فتوى بأن قاتل المؤمن له توبة فيقول: إذاً سنقتل ونتوب إن شاء الله، أما إذا لم يكن له توبة فلا، فـ ابن عباس لاحظ هذه المسألة، فقال له: ليس لقاتل المؤمن توبة.

وهنا مسألة يتكلم العلماء فيها، وهي: أنه يجوز للمفتي أن يفتي بأشد الوجهين، إذا كان له وجه في الدليل، مراعاة لحال المستفتي، إذا كان الدليل يحتمل وجهين، فمراعاة لحال المستفتي يفتيه بالأشد.

والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله استخدم هذا الأصل في فتوى تحريم نقاب البرقع، لأن بعض الناس طار بها طيراناً، على أساس أن الشيخ ابن عثيمين يقول: النقاب حرام وليس كذلك، فالشيخ محمد صالح رحمه الله ممن يوجب ستر المرأة وجهها، فكيف يقول: إن النقاب حرام؟ فالنقاب الذي فيه إدلاء، وهو أن تضرب المرأة بالثوب الواحد من شعر رأسها لأخمص قدميها قطعة واحدة، فهذا هو الذي يوجبه الشيخ ويقول به.

ويبقى النقاب الآخر وهو نقاب البرقع الذي اشتهر في مصر والشام، وهو عبارة عن قطعتين: قطعة غطاء رأس، وقطعة تضرب على الوجه، فالزائر إلى مكة يلاحظ النساء اللواتي يرتدين لباس البرقع، بدأن يتوسعن فيه، ترفع الغطاء الأعلى قليلاً، وتنزل غطاء الوجه قليلاً، فإذا بنصف وجهها يظهر، أي من منتصف الجبهة إلى أول الأنف، فلما بدأن يتوسعن في ذلك قال: لا، لا يجوز، وإن كان نقاب البرقع موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نراه الآن؛ لأن النساء توسعن في ذلك.

والعلماء يقولون في هذه أيضاً: إن المفتي إذا أفتى في مسألة بشروط جواز فلم يلتزم الناس الشروط، فله ألا يذكر الشرط، أي: إذا قال مثلاً: يجوز أن تلبسي نقاب البرقع، لكن إياك أن تفعلي كذا وكذا، وهو يعرف أنها لن تلتزم بهذا الشرط؛ فحينئذ له أن يطلق المنع بغير ذكر الشرط؛ لأن الشرط لا قيمة له، بل هذا الشرط يمكن أن يستخدمه بعض الناس في الفوضى، فيقولون: من الأفضل أن نغلق هذا الباب، وهذا من ذكاء المفتي، لابد أن يراعي المفتي حال المستفتي.

فطالب العلم في بداية الطلب لا بد أن يتمتع بهذا الذكاء، وإلا فسيخسر كثيراً، إما في التحصيل، أو إذا ابتلى الله العباد به مفتياً بعد ذلك.

فأول درجات الذكاء: أن طالب العلم يبدأ بالأهم فالمهم.

أول واجبات طالب العلم: والإنسان يعجب من الطلبة الذين يريدون دراسة علم مصطلح الحديث، ولم يجودوا القرآن بعد، هو لا يستطيع أن يقرأ القرآن ويريد أن يدرس المصطلح، فطالب العلم إذا كانت بدايته هكذا فلن يفلح، وقد تجد أيضاً طالب العلم أول ما يبدأ في الفقه يبدأ يقرأ في المحلى لـ ابن حزم، وهذا من علامات الخسران: أن يكون أول ما يقرأ من الفنون وأول ما يبتدئ، وأول درجة في الفقه أن يقرأ المحلى لـ ابن حزم أو نيل الأوطار، أو الكتب التي تعنى بذكر الأدلة والمناقشة.

لنفرض أنني رجل ليس عندي فهم، أي: ميزان أعرف به الحق من غيره، فإذا أنا دخلت في الكتب التي تعنى بذكر الخلاف، واحد في الشرق والثاني في الغرب، الثاني يحضر دليلاً وهذا يحضر مقابله دليلاً، فأنت في النهاية ماذا تصنع؟ لا يمكن إلا واحدة من ثلاث: 1 - إما أن يختار بهواه القول المناسب له.

2 - وإما أن يسوء ظنه بالعلماء جملة، فيقول: لو كانوا على حق ما اختلفوا والدليل واحد، فواحد مشرق والآخر مغرب وما ذلك إلا لأن مدارك الفهم متسعة، فهذا أفتى بمنطوق الدليل، والثاني أفتى بمفهوم الدليل، والمفهوم غاب على هذا الرجل فلم يتفطن هذا كيف أخذ هذه الفتوى.

وإما أن يعرض عن العلم جملة، طالما أنه لم يجتهد.

فالصواب: أن نبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما ذكره الإمام البخاري في تبويب له على تفسير معنى الرباني، في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قال: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وكما قال القائل: غذاء الكبار سم الصغار.

أي: لو أحضرت ولداً وهو لا يزال يرضع وأعطيته قطعة لحم فإنه يموت بها؛ لأن معدته لم تتعود على هذا الهضم، فلذلك الإنسان أول ما يبدأ لا بد أن يعمل ذكاءه، ما الذي ينبغي أن يبدأ به، لكن أول ما يدخل مباشرة يدخل في سلك الأئمة المجتهدين، هذا يضر الطالب أشد الضرر.

هذا الذكاء ينفعه فيما بعد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبعض الناس يظن أن الكتاب والسنة كافيان وافيان لكل ما يستجد للبشر، لدرجة أنهم قالوا: إن تسعة أعشار الأحكام الشرعية تؤخذ من القياس، وهذا من الخطأ، فالأحكام الشرعية بكاملها وكل الأدلة كافية، لكن المشكلة في الذي يستنبط الأحكام؟ فهذا الإمام البخاري إمام أهل الحديث والفقه في زمانه كان من العلماء الذين يستنبطون الفقه من الأدلة، ففي كتاب المواقيت قال: (باب من أدرك ركعة من العصر) أي: قبل أن تغرب الشمس، ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث، فالحديث الأول مناسب للتبويب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم سجدة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك).

والتبويب كأنه مأخوذ من نص الحديث، ولكن المهم في الحديثين الباقيين، أما الحديث الثاني بعد حديث أبي هريرة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً، قال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).

وأردف حديث أبي موسى الأشعري عقب حديث ابن عمر قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا لك: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين).

أولاً: ما علاقة هذين الحديثين بحديث: (من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس) هذا الجواب الإمام البخاري يريد أن يقول: إن العمل لا يقبل إلا إذا استوفى شرائطه، والله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، فإذا أدرك رجل سجدة أو ركعة واحدة قبل أن تغرب الشمس، بمعنى أنه أنهى الركعة ودخل وقت المغرب، فهل وقع أغلب صلاته في غير الوقت أم لا؟ ثلاث ركعات وقعت في غير وقت العصر، فالجزء القليل من الصلاة هو الذي وقع في الوقت، ومع ذلك عاملك الله تبارك وتعالى بالفضل، فوهب الأكثر للأقل، واعتبر أنك أدركت الصلاة.

ولو أنه حاسبك بالعدل لقال: لك ركعة واحدة فقط، وثلاث ركعات لا قيمة لها؛ لكنه عاملك بالفضل، فوهب لك الأكثر الذي وقع على غير شرطه.

كذلك عامل هذه الأمة بالفضل، فكانت أقل أعماراً وأكثر أجراً، ولو أنه عاملها بالعدل لعاملها أقل، فيعطيها من الأجر أقل ما يعطي للأطول عمراً، هذا هو وجه الربط، فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن هذا تفضل من الله عز وجل أن يقبل منك صلاتك وقد وقع أغلبها في غير الوقت، مع قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، أي: لها وقت أول ولها وقت آخر، فعاملك هنا بالفضل، كما عامل الأمة جملة بالفضل لما أعطاها الأجر الجزيل مع العمر القصير، وهذا واضح جداً في أشياء كثيرة، منها ومن أجلّها قوله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، فأطول عمر نحن نعلمه هو عمر نوح عليه السلام {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، وتلفت نظرك هذه العبارة، لماذا لم يقل: (تسعمائة وخمسين)؟ إذا كان ألف سنة إلا خمسين عاماً هي تسعمائة وخمسين، فهل هناك فرق بينهما؟ هناك فرق كبير، فقد جرت عادة الناس أن تلغي الكسر في العد، مثاله: كم الساعة الآن؟ فتقول مثلاً: السادسة وثلاث عشرة دقيقة تقول له السادسة والربع أو السادسة وعشر دقائق، هكذا، فتلغي الكسر، فجرت عادتهم، إلغاء الكسر دائماً في العد.

فلو قال: (تسعمائة وخمسين عاماً)، لقلنا: يحتمل أن تكون تسعمائة وثلاثة وخمسين، أو أربعة وخمسين، أو خمسة وخمسين، فلما قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] لا يحتمل أن يكون هناك كسر إطلاقاً.

فأطول عمر نحن نعرفه عمر نوح عليه السلام: (تسعمائة وخمسين عاماً)، وقد ذكر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015