وهنا قَدَّم أولاً العلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله علماً) ثم قال: (ورجل آتاه الله مالاً): فنستشعر من هذا: أن الرجل الذي آتاه الله المال عنده علم؛ إذ كيف يسلط الرجل ماله على هلكته في الحق وهو جاهل؟! وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل صاحب المال: (سلطه على هلكته في الحق) (الهاء) في (هلكته) تعود على الرجل أم تعود على المال؟ تعود على الرجل؛ لأنه عمل فكسب، ومن فسد مِن عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العابد عندما يكون ليس على علمٍ فإنه يبتدع، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].
وتجد دائماًَ العابدَ الذي ليس عنده علم من أكثر الناس وقوعاً في البدع، فنفسه تسول له أنه بعد كل صلاة يسجد سجدة شكر طويلة، ويرى أن هذه قربة، وأنها ليس فيها شيء، وإذا أنكر عليه يقول: وهل أنا شربتُ خمراً، أو زنيتُ أو قتلتُ؟! كذلك أي مبتدع يقول هكذا.
أخبرني بعض الإخوة أن ثَمَّ واحداً من بعض الطرق الصوفية يصلي على النبي بعد التراويح، وفي نصفها يقرأ قرآناً، ويريد أن ينقل مثل هذه البدع في المسجد، وأهل هذا المسجد يريدون أن يقيموه على السنة، فهمس في أذني بعد صلاة الفجر بأنه حصل كذا وكذا، ويجب أن أنبه على هذا الكلام.
فقلت: سأنبه، فتكلمت كلمة مختصرة لطيفة من أجل أن أدخل بها إلى الموضوع، أول ما بدأت الدخول في الموضوع قام فالتقط المكبر، فقال لي: مع احترامي لك -وطبعاً عندما تسمع أحداً يقول: مع احترامي لك، اعلم أن الكلام الذي سيأتي ليس فيه احترام، وأنه سيقل أدبه مباشرة، وهكذا- أنا أقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ما المشكلة فيها؟ هذا قرآن يا أخي، وقراءة القرآن واجبة، وأصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام-، ماذا بكم؟ ألا تريدون أن تصلوا عليه؟! ثم ما هو الذنب الذي أنا ارتكبته؟ أقرأ قرآناً ويكون عليَّ وزر، أصلي على النبي ويكون عليَّ وزر، ما هذا الكلام الذي أنتم تقولونه؟! فأول ما تكلم الرجل بهذا الكلام عرفت أنه لا يستطيع تعريف معنى البدعة، ولم يخطر بباله شيء اسمه: بدعة؛ لأن أي شخص يقول هاتين الكلمتين اعرف أنه ليس لديه خلفية عن البدعة.
فالبدعة: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، طريقةٌ يفعلها الإنسان ليتقرب بها إلى الله، نزَّلها هذا الرجل منزلة الشرع فصارت تضاهي الطريقة الشرعية.
وهذه البدعة يفعلها للتقرب إلى الله عز وجل، وليس عليها دليل، هذه هي البدعة.
فقلتُ له: إذا عطس رجل وقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ما رأيك في الصلاة على النبي بعد العطاس؟ فقال لي: قل أنت.
قلت له: أنا أسألك لأتحقق هل تعرف معنى البدعة أم لا! فالصلاة على النبي ماذا فيها؟ أنت لِتَوِّك تقول: إن الصلاة على النبي ليس فيها شيء.
قال: نعم.
قلت: إذاً ما رأيك في شخص عطس، وبعد كل عطاس يصلي على النبي؟ فسكت.
وأنا إنما أستدرجه لأننا عندنا في هذا أثر، فلو تكلم أصكه به مباشرة، وهو ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً عطس عنده، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: (وأنا أقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ولكن ما هكذا علَّمنا رسول الله).
فلكي لا يقول الرجل: هؤلاء ينكرون الصلاة على النبي.
قال له: أنا أيضاً أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مثلك؛ لكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرن الصلاة عليه مع العطاس.
فقال لي: صحيح، لا يصلي بعد العطاس.
قلت له: إذاً: فأين الدليل على أنه يصلي بعد التراويح؟! وأين الدليل على أنه يقرأ قرآناً بين الأربع ركعات؟! فالمبتدعة خُلُوٌّ من العلم، فالذي يفسد مِن عُبَّادنا يكون فيه شبه بالنصارى الذين ابتدعوا، إذ ليس عندهم علم؛ ولذلك تجد أكثر الناس وقوعاً في الوسوسة والشبهات العُبَّاد؛ أما العلماء فلا.
لأن العالم عارفٌ بالحدود، يعرف كيف يفرق بين الحرام والحلال والشبهة، وليس عنده مشكلة؛ لكن العابد يحصل عنده إشكالات؛ لكثرة عبادته، وليس عنده علمٌ يقع في هذه الشبهات.