لكن قبل أن أنهي هذا الكلام أحببت أن أنبه على مسألة أصولية، وهذه المسألة يعيِّرُ بها أهل السنة والجماعة كثير من الجهلة الذين يستخدمون عبارة: روح النص، فهو يقول لك: (نحن طلعنا روحه) والمفروض أن الألفاظ قوالب المعاني، وهو يقول: لا القالب روح النص، فيقول أهل العلم: إن الأصل في الألفاظ الحقيقة أي: الأصل في اللفظ ما وضع له أولاً، ولا ينقل إلى غير الحقيقة إلا بقرينة، فلو قلت لك: هذه يد فأول شيء يخطر في ذهنك هو هذه الجارحة، فإذا قلنا: فلان له عليَّ أياد، فلا يخطر في الذهن أنه واضع يديه على أكتافه، إذن فنحن نفهم بدلالة السياق أن الأيادي أو اليد في هذا السياق ليس المقصود بها الحقيقة؛ لأن السياق من المقيدات كما يقول أهل العلم، فبعض الناس يغفل عن هذه القاعدة وهي مهمة: (السياق من المقيدات) فمثلاً: كلمة (عزيز) ليست كلمة ذم، وكذلك كلمة (كريم) فإذا قرأت قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] فكلمة عزيز وكريم في هذا السياق ذم.
وذلك من أجل السياق؛ لأنه هو الذي غير معنى الكلام، فالسياق من المقيدات، فمثلاً قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19] فلماذا ذكر ضاحكاً، ولم يقل: تبسم فقط؟ قال: لأن الابتسام على نوعين: ابتسام المغضب، وابتسام المعجب، فابتسام المغضب كما في قصة كعب بن مالك في الحديث الذي في الصحيحين: (فلما أظل النبي صلى الله عليه وسلم قادماً من تبوك، وجاء الناس قال: وجئت فدخلت المسجد فلما رآني تبسم تبسم المغضب وقال: ما خلفك؟) وفي آخر الحديث لما نزلت توبة كعب بن مالك قال: (فلما دخلت المسجد فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، وكان إذا سر استنار وجه كأنه قطعة قمر، وقال: أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك) أما قوله: (فتبسم ضاحكاً) فهمنا بكلمة (ضاحكاً) أنها ابتسامة المعجب؛ لأنه لم يغضب من قول النملة، بينما من الممكن أن أي ملك من الملوك تقول له كلمة حق يغضب منها وليس له حق في الغضب، فأراد ربنا تبارك وتعالى أن يبين لنا أن سليمان لم يغضب من قول النملة إنما تبسم من قولها، ولذلك أعقب الابتسامة بالشكر: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] ولا يتبسم بهذه الصفة إلا لأنه معجب بقول النملة وليس غاضباً، فقوله: (تبسم ضاحكاً) أدت المعنى (100%)، أما كلمة تبسم مجردة لا تدل دائماً على الضحك، إذاً فكلمة (الضحك) هنا جاءت من المقيدات ومن هذا الباب أيضاً قولهم: (إن السكوت علامة الرضا) فليس كل سكوت رضا، فهناك سكوت القهر، وسكوت الرضا، وسكوت الغضب.