الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: (وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا)، وفي الحديث: (إن الله ينصب وجهه في وجه العبد ما لم يلتفت) يعني: فإذا التفت صرف الله وجهه عنه.
إن الجارحة تتبع القلب، ولا تلتفت الجارحة إلا بعد التفات القلب، فإذا التفت القلب التفتت العين والتفت الرأس؛ لأن القلب بمنزلة الملك، فلما قال: (لا تلتفتوا) دل ذلك على التفات القلب، والمسائل التي لا يعرفها الإنسان ولا يستطيع أن يحكم عليها تنصب لها علامة في الخارج يعلق الحكم بها، فإذا التفت إنسان برأسه في الصلاة نعلم يقيناً أن قلبه التفت، لكن بدون وجود هذه الأمارة وهي التفات الرأس لا نستطيع أن نقول للإنسان إن قلبك التفت.
لأن هذا لا يعلمه أحد، وكذلك الأحكام التي تجري في هذا المجرى لابد أن تنصب لها أمارة في الخارج يعرف الحكم بها، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالسرور أمر قلبي لا يعلمه أحد، فنحن في هذه الحالة ننظر إلى أمارة في الخارج، فإذا وجدناها علقنا الحكم بها، فإذا قلنا للأستاذ: حين تدخل الفصل ويقوم لك الطلاب، ويتخلف أحد الطلاب عن القيام فهل تضربه؟ فإذا قال: نعم، نقول له: إنما ضربته لأنه ساءك وأغضبك، إذن فغضبك دلالة على أنك تسرس بأن يقوم لك، فكان الغضب أمارة خارجية نحن نعلمها ونراها فعلقنا الحكم على الباطن بها، ويسوغ لنا ويصح لنا أن نقول: إنك مسرور بأن يقوم لك التلاميذ في الصف، لأن فيك علامة دلت على ذلك.
في تاريخ بغداد للخطيب: أن المأمون نادى في تجار الذهب، وأراد أن يشتري ذهباً، فأقبل تجار الذهب الكبار لأمير المؤمنين لكي يشتري منهم، فأقبل بالحيتان والقطط السمان، ودخل في وسطهم علي بن الجعد الإمام العالم، ولم يكن عنده من الذهب ما يساوي عشر معشار هؤلاء التجار الكبار، فدخل المأمون، فقاموا له جميعاً ما عدا ابن الجعد، فلما رأى المأمون ذلك قال: (لمَ لم يقم الشيخ؟ قال: أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وانظر الجواب، فلم يقل له: أنت بشر، أو أنت عبد، فلماذا أقوم لك؟ لا، إن الكبار يأنفون أن تقابلهم بهذا، فكبير المحل لا يقبل أن تخاطبه بهذا أبداً، إنما كن كما قال هذا الإمام العالم، وهذا هو الفرق بين العالم والجاهل، قال: (أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له المأمون: وما ذاك؟ فقال: حدثني المبارك بن فضالة عن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فحينئذٍ أطرق المأمون ساعة وقال: لا ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ، وهذا من باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] فاشترى المأمون منه بثلاثين ألف دينار، فلم يغضب المأمون من قوله، فلما لم يغضب وخضع للحديث علمنا أنه لا يسر أن يقوم الناس له، وهذا ما يسميه العلماء علامة أو قرينة، ولاجرم أن يعلق الحكم عليها.
ومثله -بل أدق منه- في الفهم والاستنباط ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقاموا من بيننا واقتطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وكنت أول من فزع، فجاء أبو هريرة حائطاً لبعض الأنصار فالتمس باباً ليدخل فلم يجد، لكنه وجد ربيعاً -والربيع: هو ممر لقناة ماء تمر من أسفل الجدار- حاول أن يدخل من ممر هذه القناة فلم يستطع، قال: فاحتفزت كما يحتفز الثعلب -أي: جمع أطرافه بعضها إلى بعض حتى يستطيع أن يدخل، وفي رواية أبي عوانة أو ابن حبان قال: فحفرت كما يحفر الثعلب -وذلك ليوسع لنفسه- ودخل، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره للحائط، قال: فلما رآني قال: أبو هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: مالك؟ قلت: يا رسول الله! قمت من بين أظهرنا واقتطعت دوننا وخشينا أن تصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وكنت أول من فزع، قال: يا أبا هريرة! خذ نعليَّ هاتين -وهنا الشاهد- فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فالمقصود أن يشهد مستيقناً بها قلبه ولا أحد على الإطلاق يعلم هذا إلا الله أو من أطلعه الله عز وجل على ذلك.
(من تلقاه خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) وأنَّى لـ أبي هريرة أن يعلم ذلك؟ أستيقن أم لم يستيقن، فهذا من عمل القلوب (فبشره بالجنة، فخرج أبو هريرة كما دخل فأول من لقيه عمر فبشره بالجنة، فضربه عمر ضربة، قال أبو هريرة: فخررت لأستي، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً، فلما رآني قال: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله! إن هذا عمر وركبني عمر -أي جاء بعده مباشرة- فقلت له الذي أمرتني، فضربني ضربة خررت لأستي فقال عمر: يا رسول الله! أأنت قلت لهذا كذا وكذا؟ قال: نعم، فقال عمر: يا رسول الله! خل الناس يعملون) يعني: حتى لا يتكلوا، فإنهم إذا سمعوا هذا الكلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) اتكلوا فكل من يقول: لا إله إلا الله، سيترك عمله، فالذي في القيام يقول: أنا أقول لا إله إلا الله فلماذا هذا العناء.
وعندئذ ستفتر همم العاملين، فكأنه قال: يا رسول الله! احجب هذه البشارة عن الناس حتى لا يتكلوا عليها.
الشاهد هنا، كيف لمثل أبي هريرة أن يعلم أن فلاناً هذا قلبه مستيقن بالإيمان؟ هذا كما قلنا أخفى من المثل الأول، وهذا يدل على أن الحديث -وإن خرج مخرج الغموض- لا يراد به إلا عمر؛ لأنه لم يلق إلا عمر، فكأن الكلام منزَّل عليه: (من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) فلم يلق إلا عمر، فكان هذا خاص بـ عمر وهي بشارة له، وإن خرج الكلام مخرج العموم، وهذا الأمر ثابت عند جماهير العلماء: إن الكلام قد يكون عاماً في لفظه خاصاً في مراده، كقول الله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] فالناس: لفظ عام يشمل الكل، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] لكن في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] المراد بالناس هنا هم المسلمون فقط، فلا يراد به غيرهم.
فيجوز إذا كان الأمر باطناً أن يبحث عن أمارة خارجية يعلق بها الحكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.