يوم القيامة يأتي العباد إلى الله يطلبون منه الرحمة، وقد كان أكثرهم ينفي عن الله عز وجل صفات الألوهية والجبروت، ويأتي أولئك الصعاليك الذين كانوا يتعالون عليه في ملكه، لكن يوم الحساب لا تكون الرحمة إلا للمحسنين فقط: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] كانت الرحمة في دار الدنيا أقرب إليك من شراك نعلك لو اتجهت إلى الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لا تشرك بي شيئاً -ثم قلت: يا رب اغفر لي- أتيتك بقرابها مغفرة).
قراب الأرض: يعني: لو أتيت بملء الأرض خطايا، لكن لا تشرك به شيئاً؛ لأن الشرك داء ليس له دواء إلا أن تنزع عنه، وأن تفر إلى ربك.
الله عز وجل هو الوحيد الذي لا يكون الفرار منه إلا إليه، أنت تفر من العبد إلى عبد آخر، وتفر من الأرض إلى أرض أخرى، أما الله عز وجل فالفرار منه يكون إليه وحده؛ لأنه هو الذي ملك أقطار السماوات والأرض، ولا يستطيع أحد أن ينفذ إلا بسلطان منه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما ينام: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك).
إذاً قد كانت رحمة الله قريبة منك وأنت في الدنيا، أما الآن فإن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه من قبل ولا من بعد ذلك قط، فهو في ذلك اليوم سينزل الناس منازلهم التي يستحقونها، وسينزل الكافرين في جهنم وهذا منتهى غضبه، فهو لا يغضب بعد ذلك، ينزل الكافرين في جهنم، وينزل المتقين في الجنة، وهو لا يسخط على المتقين، قال الله عز وجل: (.
اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) هذا بالنسبة لأهل الجنة، أما بالنسبة لأهل النار فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ضرس الكافر في النار مثل أحد) الكافر تكون هيئته في النار عظيمة جداً، ليس هذا الجسد الهزيل النحيل، فضرسه كجبل أحد، فما بالك بفكه، وما بالك برأسه وبقية جسده؟! وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (غلظ جلد الكافر في النار مسيرة سبعين عاماً) سمك هذا الجلد مسافة أن يمشي رجل سبعين عاماً؛ لأن هذا أشد من جهة العذاب، فذلك الجلد الرقيق الذي إن أخذ لسعة من النار احترق، أصبح سمكه سبعون عاماً، حتى يشعر الكافر بحرق الجلد شيئاً فشيئاً، ويشعر بشدة النار.
فهذا آدم عليه السلام وهو أبو البشر وقد غفر له، ومع ذلك يخاف أن يأخذه الله بذنبه، فيريد أن ينجو بنفسه، المهم أن ينجو هو: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2] تذهل: أي تنسى.
تقابل الأم ولدها لا تعرف أن هذا ولدها، مع أنها حملته تسعة أشهر، وأرضعته سنتين، وخافت عليه حتى بلغ أشده لكن هناك تنساه وتذهل عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من نوقش الحساب عذب) لم يقل: من دخل النار، بل من نوقش فقط.
يقال: (إن رجلاً كان يعيش في جزيرة، فأنبت الله له شجرة رمان، وأخرج له عيناً من الماء، فكان يشرب الماء ويأكل من الرمان، وكان طيلة عمره يتفرغ للعبادة، ودعا الله عز وجل أن يقبضه إليه وهو ساجد، فلما جاء موعد أجله قبضته الملائكة وهو ساجد، فقال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: أي ربي، بل بعملي، فقال الله عز وجل: إنه لا يظلم اليوم عندي أحد، ضعوا نعمة البصر في الميزان، وضعوا عبادة ستمائة سنة لهذا العبد مقابل البصر، فوضعوها في مقابل نعمة البصر فرجحت نعمة البصر عبادة ستمائة عام.
فقال: خذوا عبدي إلى النار، فجعل يتوسل إليه ويقول: أي ربي برحمتك! أي ربي برحمتك!).
والنبي صلى الله عليه وسلم وضح هذا جلياً في الحديث المتفق عليه حيث قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فالله عز وجل يحاسب عباده بالفضل لا يحاسبهم بالعدل؛ لأنه إن حاسبهم بالعدل أهلكهم، قال الله عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] هذا هو مقتضى العدل، أنه لو حاسبك على ما اقترفت لأهلكك من أول ذنب.
فيوم القيامة يحاسب الله عز وجل الناس بعدله -أي الكافرين- لا يظلم مثقال ذرة.