التعلم على شيخ يقصر لك العمر، ويختصر لك الوقت، في مجلس واحد يلخص لك كتاباً لو أنك قرأته وحدك لعلك تظل فيه شهراً، ويحِل لك كثيراً من الإشكالات؛ يعني مثلاً: مرت عبارة من العبارات في كتاب، كان قالها أحد الذين يردون على بعض العلماء، بعدما أبدى بعض الاحتمالات على دليل من الأدلة، فقال بعد أن ذكر ذلك: والقاعدة تقول: (إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال).
فأنت تذهب وتفتش في الكتب عن هذه القاعدة، هل أفردها أحد بذكر فما تجد أن أحداً أفردها بذكر، فكل دليل يمكن أن يطرقه الاحتمال، وكل دليل تستطيع أن تورد عليه أي احتمال، فهل إذا أوردت احتمالاً على أي دليل يسقط الاستدلال بالدليل، إذاً: لم يسلم لك من الأدلة شيء، فأي إنسان يقول: يحتمل أن الموضوع كذا وكذا، يحتمل كذا، ويحتمل كذا.
إذاً: هذه القاعدة هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟ ولو سلمنا أنها صحيحة فما هو الحد الفاصل في الاحتمال؟ ما هو الاحتمال الذي يسقط الاستدلال بالقاعدة؟ هل هو كل احتمال أم لابد له من وصف معين؟ هذه المسألة لن تجد لها حلاً إلا إذا كنت تدرس الأصول على شيخ، وكنت ذكياً بحيث تمر عليك مثل هذه العبارات فتسأله وتناقشه، فيعطيك عصارة عمره في هذه القاعدة، وهذه القاعدة ليس لها فصل مفرد في كتب الأصول، ولكن هو من خلال استقرائه ومناقشته يعطيك ثمرة عمره، ولعله ظل السنوات حتى حصل على العشر كلمات التي أزجاهن لك في عشر دقائق.
وأنت تطالع كتاب الفروق للقرافي أول فرق هو الفرق بين الشاهد والراوي، وقال: إنما بدأت بهذا الفرق لأني ظللت ثماني سنوات أطلبه، ولا أجد أحداً من مشايخي يكفيني حتى وقفت على كتاب، ثم كتبها في نصف صفحة.
فالنصف صفحة هذه تساوي ثماني سنوات من عمر القرافي، فالشيخ يقصر لك العمر، ولا زلت أذكر أنني في بداية طلب علم الحديث ما كنت أعرف أن هناك شيئاً اسمه مشايخ، ولا أن هناك شيئاً اسمه علم، ما كنت أعلم إلا أني قرأت أشياء، فقلت: هذا العلم من أين آتيه؟ فقالوا: عليك بكتاب الباعث الحثيث أو آخر مختصر عنه.
لكن ما كنت أعرف أن هناك مشايخ ولا طلب وما دلني أحد، فجعلت أقرأ في الكتب وأنا لا أفهم شيئاً، نعم هو كلام عربي لكن لا أفهم شيئاً من هذا الكلام، فقلت: سأدخر هذا الكتاب إلى الإجازة الصيفية ثم أقرأ فيه، فجعلت أقرأ فيه ولا أفهم أي شيء، وأجهد نفسي حتى أخذ مني الحديث الصحيح نحو واحد وعشرين يوماً؛ حتى فهمت، وبعدما بدأت أقرأ في مصطلح الحديث بدأت أفهم معنى المصطلحات، والمسألة يسرت لي، لكن اعترضتني عبارة في حد الحديث الضعيف، وحتى أساعد نفسي على الفهم كنت آتي ببعض الأولاد الصغار من القرية الذين في الإعدادية وأشرح لهم، وإنما أشرح لنفسي؛ لأنهم لا يفهمون، فأنا آتي وأصلي بهم ثم أسلم وأشرح، والإنسان عندما يشرح يصبح عنده شيء من النشاط، ويتوقد ذهنه ونحو ذلك.
فكنت أشرح لهم؛ لأنني لا أعرف أحداً يدلني على هذا العلم، حتى جاءت هذه العبارة في هذا الكتاب، والضعيف: هو الذي لا يحتج به، والذي تقاعد به الجابر، والضعيف غير المنجبر هو الذي تقاعد به الجابر عن مرتبة الذي لا يحتج به، فما معنى (جابر) و (منجبر) و (تقاعد به)؟ فلم أفهمه قط، وكان موعد الدرس بعد العصر، فبعدما صليت الفجر جلست أفكر وآتي العبارة من اليمين والشمال لأفهم؛ لأني سأشرحها، وحاولت فهم العبارة ولكن دون جدوي، كانت مغلقة تماماً، وكانوا يجلسون أمامي وأنا خجلان بيني وبين نفسي ماذا أقول لهم، فجعلت أقول: الحديث الضعيف والمنجبر وغير المنجبر والكلام واضح، وهو ليس واضحاً بالنسبة لي، فأنا أتكلم لعلها تأتي من هنا أو تأتي من هنا، فقلت: تعرفون (المجبراتي)، وأول ما نطقت بكلمة (المجبراتي) افتتح علي التعريف، فقلت: يعني هل عرفتم عظم الإنسان إذا كُسر، فيأتي بالعظم على بعضه ويجبره، حتى يرجع العظم إلى مكانه، فإذا لم تنفع الجبيرة فلا يستطيع هذا الرجل أن ينتفع بعظمه؛ كذلك الحديث الضعيف يجبر؛ لأن كل طريق من طرقه ضعيف، فإذا ضممت هذا إلى هذا إلى هذا فكأنما جبرته، فيعطيه نوعاً من القوة.
فالحديث الذي لا ينجبر وهو شديد الضعف الذي تقاعد به الجابر، يعني: أن هذا الجبر لا ينفعه؛ فلذلك لا يحتج به، فتصور أني لو وجدت شيخاً في مطلع هذه الدراسة، وإنما عثرت على الشيخ بعدما قطعت شوطاً طويلاً في الكتاب، ثم بدأت أعرف أن هناك طلبة ومشايخ، ولزمت شيخاً من مشايخ المنوفية رحمه الله تبارك وتعالى.
فلو أني وجدت شيخاً في أول العمر لكان لخص لي هذا العلم واختصر علي المدة في اللبة التي أنفقتها في معرفة الحديث الصحيح من الحديث الضعيف -وهي مجرد تعريفات فقط- فضلاً عن أن أصير متمرساً في هذا العلم.
فقراءتك على المشايخ يختصر لك العمر، ويصحح لك الفهم؛ لأنك ربما تقرأ فتقلب العبارة، ولذلك جرى على لسان كثير من العلماء التحذير من أخذ العلم من الصحف؛ لأن رب كلمةٍ تنقلب عليك، وأنت تنقلها على الخطأ وتفهمها على الخطأ بدون تدقيق لفظ وتدقيق معنى، وقد ذكروا في أخبار المصحفين أشياء مخجلة، وهي مخجلة مضحكة في آنٍ واحد.
يذكرون أن رجلاً كان يحفظ كتاب الله تبارك وتعالى بدون شيخ، وتعرفون قديماً أن الكتابة لم يكن فيها إعجام (لم يكن فيها نقط)، فالذي لا يتلقى القرآن على المشايخ يخطئ، فهذا الرجل كان هو أحفظ من في القرية، فزاره في القرية شيخ كبير ماهر، فدعاه للغداء عنده، فلما تغدى انتحى به جانباً، وقال له: إني والحمد لله أقرأ من كتاب الله الشيء الكثير، لكن أشكلت علي بعض أحرف في الحمد -يعني: في الفاتحة- فقال له: وما أشكل عليك فيها؟ قال له: (إياك نعبد وإياك تسعين أم ستين)؟! -لأن (نستعين) إذا أزلت منها النقاط وأتى رجل لا يعرف شيئاً فسوف يقرؤها هكذا- فقال له: على كل حال أنا أقرؤها (تسعين) أخذاً بالاحتياط!!! ويروي أعداء حمزة بن حبيب الزيات -صاحب القراءة المشهورة، قراءة حمزة - عنه أنه لماذا لقب بـ الزيات؟ مع أنه ليس في لقب الأسرة لا زيات ولا زيت ولا أي شيء؟! قال: لأنه أول ما بدأ يقرأ القرآن الكريم قرأه وحده، وليس على شيخ فسمعه أبوه يقرأ ويقول: ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه، قال: قم، فالزم شيخاً، فلقبوه بالزيات، وأنا أقول أعداء حمزة لأنهم شنعوا عليه وعلى قراءته.
أما في الحديث فحدث ولا حرج، فذات مرة سمع رجل ابن معين يقول: حدثني فلان عن فلان عن طاوس فقام ونفض نفسه، وقال: تحتجون علينا بالطيور، ما يعرف أن هناك رجلاً اسمه طاوس.
ويقال: إن بعض الناس قرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فليأت بسكينة ووقار، فأراد أن ينفذ الحديث فأخذ سكيناً وفأراً -وهذا حكاه لنا الشيخ المطيعي - فذهب إلى المسجد فقالوا له: ما هذا الذي جئت به؟! فقال: تنفيذاً للسنة! وما في الأحاديث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء أحدكم إلى الصلاة فليأت بِسِكّينَةٍ وَقَار! وإنما قال: (بِسَكِينَةِ وَوَقَار)، فصحفها.
وهكذا أخبار التصحيف عار يلحق صاحبه، لاسيما في الأسماء التي لا يدخلها القياس.
ولا أنسى محاورةً جرت بيني وبين بعض الناس في مسألة وضع اليدين قبل الركبتين، وهذه المسألة كانت منذ أكثر من عشر سنوات هي شغلي الشاغل، فلا أذهب إلى بلد إلا وأذكرها وكأنها من أصول الدين، فقلت: من ضمن الأشياء أن ابن عمر في مستدرك الحاكم كان يضع يديه قبل ركبتيه ويقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) فقال: هذا الحديث مقلوب، قلت: ومن ادعى القلب فيه؟ قال الحاكم! فقلت: هذا غير موجود! فقال: هذا في المستدرك، ففتحنا المستدرك فإذا بـ الحاكم يقول بعد هذا الأثر: (وهذا الذي روي عن ابن عمر القلب إليه أميل)، فالقلب إليه أميل يعني: قلبه يميل إليه، فأين القلب في هذا، فقال: القلب يعني الحديث مقلوب، أي: أنه انقلب على راويه، فبدل أن يقول: الركبتين قبل اليدين، قال: اليدين قبل الركبتين، فقلت: سبحان الله! أنت تذكرني بالشيخ الذي مر على قارئ يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم!! فقال: لا عقل ولا قرآن!! لأن السقف لا يكون إلا من فوق، فكيف يخر عليهم السقف من تحت، فلا عقل ولا قرآن.
فهذا الرجل يقول: (والقلب إليه أميل) فهل يعني هذا أنه مقلوب؟ فالحضور على الشيخ يقيك من مثل هذا الفهم الخطأ، سواء كان فهماً أو تصحيفاً جلياً.
وقرأت لبعض الناس، وهو يبدو من الذين انتحلوا نحلة الخوارج في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، يقول: هذا الحديث ليس معناه أهل الكبائر الذين يرتكبون الكبيرة من الذنب، وإنما الذين يفعلون الكبيرة من الطاعات، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، فهذا هو المقصود بالكبيرة في الحديث، فأهل الكبائر هم: أهل الصلاة والزكاة والحج، يعني الأعمال الكبيرة من أعمال البر والطاعات.
فإذا قرأ رجل مثل هذا الكلام ولم يكن له شيخ يصححه وقع في مثل هذه المتاهات، وأخذ العفن الموجود في الكتب؛ لأنه لا يميز، وليس عنده شيخ يقول له: هذا صحيح، وهذا غير صحيح.