من أعظم ثمرات الأخذ عن الشيخ: الأدب، والمشايخ كانوا ينقلون الأدب مع العلم، فما كانوا يعلمون فقط، وإنما كانوا يؤدبون، فممن أذكرهم في هذا المضمار الإمام العلم المشهور سليمان بن مهران الأعمش، وقد كان يؤدب تلاميذه أدباً ما نعرفه عن كثير من المشايخ، كان يذلهم إذلالاً في طلب الحديث، وكان عسراً جداً فما يكاد يعطي واحداً حديثاً إلا بشق الأنفس، حتى أن واحداً سأله سؤالاً فكلح وجهه، فقال له: والله لقد علمناك كالح الوجه إذا سئلت حديثاً كأنما تنتزع روحك، مع أن الأعمش من المتقنين، يعني: أحاديثه كثيرة جداً في دواوين الإسناد، فلم يكن على عُسر في الحقيقة، وإلا لو كان عسراً ما حفظنا عنه كل هذه الأحاديث، لكن كان إذا رآهم مقبلين على الحديث تمنع عليهم، حتى إذا كان فيهم مستكبر أو من يظن نفسه ابن أمير أو وزير فسيقول: أيظن أنه يذلنا؟ فينصرف، ومثل هذا لا يفلح، فهو كان يعالج فيهم الكبر بهذا الإذلال.
حتى أن رجلاً ذات مرة جاءه وقال له: يا أبا محمد! -وهذا الراوي: كان يبكي في تذكره، لأنه كان إماماً كبيراً- قال: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده، فأخذه من حلقه ورجزه في الحائط وقال: هذا إسناده، فما قال: الأعمش هذا سيئ خلق، والمشايخ غيره كثير، وكان بدل الأعمش ألوف؛ لأنهم كانوا يريدون الأعمش لعلو سنده وثقته وضبطه.
وذكر الخطيب في شرف أصحاب الحديث عن الأعمش مقالات كثيرة جداً، وخص الأعمش بالذات بهذا الكم، فذكر من ضمن ما ذكر أنه اشترى كلباً لأصحاب الحديث، حتى إذا جاءوا واقتربوا من الباب أطلق عليهم الكلب، فكان إذا سمع همهمتهم وأصواتهم وأصوات أقدامهم يرسل عليهم الكلب فيفرقون، وهم في كل ذلك لا يكلون ولا يملون، أي: ليس إذا رأوا الكلب يعتبرون ذلك اليوم عطلة، لا.
وإنما إذا دخل الكلب الدار رجعوا مرة أخرى، فإذا خرج الكلب عليهم فروا مرة أخرى وهكذا، حتى دخلوا عليه ذات يومٍ وإذا بالكلب غير موجود، فلما رآهم الأعمش بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟! قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، الذي هو الكلب! وذات مرة كان يمشي في جنازة -وكان الأعمش كفيفاً رحمه الله- فأخذه رجلٌ من أصحاب الحديث، وقال: أصاحبك يا أبا محمد!، فصحبه لكنه أخذه وانحرف به عن طريق الجنازة، وطبعاً كان هناك صمت فلم ينتبه الأعمش أنه خرج من طريق الجنازة، فما زال يمشي ويمشي حتى قال له الرجل: يا أبا محمد! أتدري أين أنت؟ قال له: لا.
قال له: أنت في جبانة كذا وكذا، والله لا أردك البلد حتى تملأ ألواحي حديثاً، فقال له: اكتب، فكتب! فقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان حتى ملأ الألواح، وهذا الذي لا يستطيع أن يأخذ حديثاً من الأعمش، فأخذ منه هذه الأحاديث كلها، فرجع به والأعمش متغيظٌ عليه، وهو يعلم ماذا سيفعل الأعمش به إذا رجع إلى الدار، فدفع الألواح لأول صاحب لقيه في الطريق، فلما ذهب إلى الدار قال: وصلت إلى الدار يا أبا محمد! فأمسك بعنقه، وقال: خذوا الألواح من الفاسق!! فقال: لقد مضت الألواح يا أبا محمد؟ فقال له: كل ما حدثتك به كذب!! حتى يزهده فيها، فقال له: أنت أعلم بالله من أن تكذب.
فكان عسراً جداً رحمه الله.
فهذا كان يربي تلاميذه، وكان تلاميذه يجلسون فما يستطيع الواحد منهم أن يتنفس، فلو تكلم رجل في الحلقة فإنه يوقف مجلس التحديث وينصرف، حتى إن رجلاً من الغرباء جاء وجلس بجانب الأعمش، وكان الأعمش يكره أن يجلس أحد بجانبه، ولكن الرجل لا يعرف أن العادة أنهم لا يجلسون بجانب الأعمش، فجلس، فأحس به الأعمش، فكان يقول: حدثنا فلان ويبصق عليه ومن ينهونه أن يتحرك؛ لأنه لو قال للأعمش: ماذا تعمل؟ فسوف يوقف مجلس التحديث، فصبر على هذا حتى انتهى المجلس.
فأي ذل أكثر من هذا؟!! إنها تربية فكان رحمه الله شديداً، والمربي يحتاج في هذه المواضع إلى الشدة، حتى لا يفلت منه الحبل كما يقولون، وليس هذا فقط، بل كان هذا شأنه حتى مع الحلاقين، فكان إذا دخل عند الحلاّق وأمره بشيء فخالفه قام، حتى ذكروا أنه قال لأصحابه: أبغوني حلاقاً أخرس، لأن الحلاق معروف بكثرة الكلام، فهو يريد حلاقاً أخرس لا يتكلم يحلق له فقط، لا يجلس الوقت بعد الآخر يقول له: الحديث الفلاني يا أبا محمد والحديث العلاني، فبحثوا له عن حلاق وأخذوا على الحلاق المواثيق ألا يتكلم، ولا يسأله في حديث، فحلق له رأسه حتى بلغ النصف، قال: يا أبا محمد! حديث ولم يكمل! فقفز الأعمش من على الكرسي بنصف رأسه، ودخل الدار، فظل ثلاثة أيام ونصف ورأسه محلوق، حتى كانوا يقولون له: الرجل لن يتكلم بعد ذلك، فبعد ثلاثة أيام من المراجعة دخل إلى الرجل فحلق له النصف الآخر ولم يتكلم.
فكان عند الأعمش رحمه الله حدة، كان يستخدمها مع طلاب الحديث، ولم يكن الأعمش وحده هكذا بل كان كثير من المشايخ على هذا النحو، فذكر ابن عساكر في ترجمة يحيى بن معين في تاريخ دمشق: أن رجلاً جاء لـ يحيى بن معين وقال: يا أبا زكريا! أنا مستعجل، حدثني بحديثٍ أذكرك به، قال له: اذكرني إذ طلبت مني حديثاً فلم أفعل، وأبى أن يحدثه، وأبو بكر بن عياش أيضاً ورث هذه الشدة عن الأعمش، كان عسراً جداً، لا يكاد يعطيهم حديثاً، حتى إنهم قالوا له ذات يومٍ: يا أبا بكر! حدثنا بحديث، قال: ولا بنصف حديث، قالوا: حدثنا بنصف حديث، فقال لهم: اختاروا السند أو المتن؟ فقالوا: أنت عندنا اثنان، يعني: كبروه من أجل أن يحنّ عليهم، فقال لهم: (كان إبراهيم يدحرج) فقال الخطيب: فانظر إليه كيف أنه حدثهم بشيء لا ينفعهم.
يعني ضن عليهم حتى في نصف حديث أن يحدثهم بشيء ينفعهم، فكانوا يربون، ما كانوا يعطون علماً فقط، فلذلك إذا لزمت المشايخ تأدبت كثيراً وراح عنك كثير من الأخلاق الجاهلية، ويظهر هذا في طلبة العلم لاسيما إذا تعددت مشايخهم؛ لأن الذي يلزم شيخاً واحداً إذا وقع الشيخ في حفرة سقط وراءه، وكما قال الأول: الذي يقتصر على شيخٍ واحد كمن له زوجة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها، وإذا مرضت مرض معها؛ أما الرجل الذي يعدد فليس كذلك، فكذلك الرجل إذا طلب العلم عن عدة مشايخ فإنه لا يستطيع أن يعرف خطأ شيخه الأول إلا إذا جالس شيخه الآخر، ولذلك ترى السماحة والإنفاق في البحث عند من له أكثر من شيخ أكثر ممن له شيخ واحد.
فالذي له شيخ واحد يكون وراءه بقضه وقضيضه يقول بقوله، ويجمع جراميزه في سبيل نصر قول هذا الشيخ، بخلاف إذا كان له أكثر من شيخ، فطلب العلم على المشايخ مهم جداً.