لما ابتلي الإمام أحمد في المحنة المشهورة، وجلد ثلاثمائة جلدة في يوم الإثنين وهو صائم، دخل عليه عمه، فقال: يا أحمد قلها- أي: أجبهم إلى ما يريدون- يعجبك المكان الذي تنام فيه، وهذا الطعام الدون الذي تأكله.
فقال له يا عم: إنما هو طعامٌ دون طعام، وكساءٌ دون كساء، وإني عرضت نفسي على السيف وعلى النار، فلم أتحمل النار.
وظل الإمام أحمد سنتين والقيد في رجله، إذا أراد أن يصلي خلع القيد وصلى، وبعدما ينتهي يضع القيد في رجله، امتثالاً للأمر.
إنما هو طعام دون طعام وكساءٌ دون كساء، وإنما هو وقت معدود معلوم، فالدنيا خطوة رجل، هذا المسجد الذي نصلي فيه الآن كان مقبرةً للذين سبقونا، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]، (كفاتاً): مأخوذ من الكفت وهو الجمع، وكما تقول العوام: (الكفتة) وهي التي تجمع من أخلاط وتفرم مع بعضها، أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، يعني: جمعناهم على ظهرها، ثم جمعناهم في بطنها.
خفف الوطء، فما أظن أديم هذه الأرض إلا من هذه الأجساد.
ما من مكانٍ في الأرض إلا كان قبراً لرجلٍ سبقنا، إذاً: هي خطوة، ثم تلقى الله عز وجل.
سفيان الثوري مات هارباً: أرادوا أن يولوه القضاء فهرب؛ لأن القضاء تبعاته كبيرة، فخاف أن يأتي الله عز وجل بمظالم العباد، فبحث الخليفة عنه فلم يجده، ومات سفيان الثوري رحمه الله في بيت تلميذه عبد الرحمن بن مهدي، وكان معه في لحظة الموت تلميذه الآخر: يحيى بن سعيد القطان، كان سفيان الثوري نائماً واضعاً رأسه في حجر عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد القطان عند رجليه، وفجأة انخرط سفيان في بكاءٍ عميق، فقال له: يحيى بن سعيد: ما يبكيك يا أبا عبد الله، ألست تقدم على الذي كنت تعبده؟ الذي أفنيت حياتك فيه ولأجله، فأنت قادم عليه، وتخرج من الضيق إلى السعة، وأنت ممن قضى حياته في عبادة ربه، أتخشى ذنوبك؟ فأخذ سفيان الثوري تبنة -قشة من على الأرض- وقال: لذنوبي أهون عليّ من هذه، إنما أخشى سوء الخاتمة، ما أخشى ذنبي، إنما أخشى سوء الخاتمة.
سفيان العابد الزاهد الورع الكبير، يقول: أخشى سوء الخاتمة، لا يزال المرء يذكر الموت والبلى فيرق قلبه، فينتفع به، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)، فكل طريق يفيد القلب يفسده سده، حتى تنتفع بالوحي؛ فإن صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، إما وحيٌ وإما هوى، صاحب الهوى لا ينتفع بالوحي، وإذا أردت أن تنتفع فسد كل طريق يفسد القلب، سواء عن طريق الذوق أو طريق الشم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأةٍ خرجت مستعطرة فشموا ريحها فهي زانية، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، كم أردى هذا الشم من رجال، فلو أنه أغلق هذا الباب على نفسه استراح قلبه من عناء التصور، واعلم أن السمع والنظر هما أخطر طريقين إلى القلب قاطبةً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.