إن مادة حياة القلب في اثنتين: في الوحي: كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، -فحياتك في الوحي قرآناً وسنة- {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، هذه مادة الحياة الأولى.
ومادة حياته الثانية: المحن: تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف؛ وبهذا يحصل إشكال يواجه كثيراً من الناس وهو: لماذا جعل الله البلاء قرين الأنبياء وأتباع الأنبياء؟ لماذا لا يمكّن الله لأنبيائه، ويترك السوقة والرعاع من الناس يتطاولون عليهم ويعذبونهم؟ لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ موسى عليه السلام أكثر الأنبياء تعرضاً للخوف، من حين ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام.
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، لماذا لا يؤمن الله عز وجل وليه وكليمه.
وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يتطاول عليه أبو جهل وأبو لهب، وسفهاء قريش، لماذا لا يمكن له؟ لأن العبد يوزن عند الله بقلبه، فلأن يبتليك في بدنك حتى يستقيم لك قلبك، أفضل من أن يعافيك في بدنك ويضعف قلبك.
إذاً حياة القلب في المحن، فالإنسان الممتحن المبتلى من أقوى الناس قلباً، وأضعف الناس قلوباً هم أهل الترف.
لماذا صاحب الترف خائف دائماً؟ لأنه سينتقل إلى أقل مما هو فيه، وربنا سبحانه وتعالى: قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، بعض الناس استشكلوا ظاهر الآية، فقالوا: كيف يأمر الله بالفسق حيث قال: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا)؟! فقال العلماء: الآية لها معان: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28].
أول هذه المعاني للآية: أن الآية فيها أمر، أمرنا مترفيها: يعني: بالطاعة: فبدلوا.
المعنى الآخر والأقوى في الآية: أن (أمرنا) بمعنى (كثرنا)، وهذا المعنى وارد في كثير من الأحاديث، مثل الحديث الذي رواه البخاري في مطلع صحيحه، من حديث ابن عباس (لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل، وأراد أن يؤلب هرقل على أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ممن هاجر إلى هرقل.
قال أبو سفيان: فسألني هرقل عدة مسائل: المهم بعدما أجاب أبو سفيان على أسئلة هرقل، وعلت الأصوات في الجلسة، قال أبو سفيان: لقد أَمِر أمرُ ابن أبي كبشة) أمِر: يعني: فشا وذاع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير المال تركةٌ مأمورة)، مأمورة: يعني: كثيرة النتاج.
فبالله عليك: تصور منطقة من المناطق كل أهلها أو غالبهم مترفون فسقة -مترف وفاسق في نفس الوقت- ما الذي تتصوره؟ يطلقون العنان لشهواتهم! لذلك العلماء لما تنازعوا: أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ انفصل محققوهم: على أن الغني الشاكر أفضل، قالوا: لأن الصبر في أهل الفقر كثير، والشكر في أهل الغنى قليل، قلّ مَا تجد غنياً شاكراً يقوم بحق الله في المال، والمال وسيلة الطغيان، فقالوا: إن الغني الشاكر أفضل، لا يقوم بشكر المال إلا أفذاذ من الرجال.
حياة القلب في المحن، فإذا أصبت بمصيبة فلا تخف ولا تجزع؛ فإن الله عز وجل أراد سلامة قلبك، وفي نفس الوقت، يجب أن تسد على قلبك باب الهوى، كل منفذٍ إلى القلب سده، منافذ القلب: الحواس: الذوق، والشم، والسمع، والنظر، فالجوارح لها طريق إلى القلب، وهي تتفاوت في ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر ما يدخل الناس النار: الأجوفان: الفم والفرج)، اعلم أن مدة بقاء الطعام في فمك ثلاثون ثانية فقط، وتنتهي لذة الطعام، ولكن تجد كثيراً من الناس يحرص في هذه الدنيا على كثرة الأكل.
والمثل المشهور: (نحن نعيش لنأكل)، فجعل حياته كلها مطعماً، يشتغل فترة، ويشتغل فترتين وثلاثاً لماذا؟ ليوفر المال الذي يشتري به ما يريد من الطعام، فهذا همه.
هذه اللذة والمتعة التي ضيعت عليك قلبك هي لذة نصف دقيقة وهي مدة بقاء الطعام في فمك، فلو أنك ألغيت هذا الباب استرحت ولربما رضيت بالفتات.