وهنا ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فقال: (إن نبي الله نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه أو قال لابنَيه: إني قاص عليكما الوصية -وفي رواية لـ أحمد - إني قاصر عليكما الوصية).
كلمة: قاصر.
هنا تحتمل معنيين: المعنى الأول: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إنني سأوصيكما أنتما فقط، ولعلك لو تأملت في قول نوح عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] تعلم أن امرأة نوح وابنه ومعظم قومه كفروا، وقد ظل ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فلم يستجيبوا، فهذا يوحي إليك أن المؤمنين كانوا قلة، فلم يجد في حال موته غير ابنيه، لذلك قال: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إني سأقتصر عليكما في هذه الوصية.
هذا هو المعنى الأول.
المعنى الثاني: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إني سأقصِّر في وصيتي ولن أطيل عليكم، فهذا واضح من رواية النسائي، والنسائي إنما روى هذا الحديث في السنن الكبرى -وله السنن الصغرى لم تطبع حتى الآن، إنما المطبوع من سنن النسائي الآن: السنن الكبرى- فيُفهم من سياق الحديث في سنن النسائي أن نوحاً عليه السلام قال: (إني سأقصر) يعني: لن أطيل عليكم حتى تحفظوا وصيتي، ولذلك قال: (آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين) ما أطال.
(إني قاص عليكما الوصية): أي: وصية نوح عليه السلام، وتجد أن كثيراً من الأنبياء كانوا يوصون عند الموت، وكثير من الصحابة كانوا يوصون عند الموت، ولا ترى رجلاً صالحاً إلا ويوصي عند الموت، وهذا شيء يغفل عنه أهل الدنيا العاملين لها، قلَّما يوصي، يوصي بماذا؟ بماله الذي سيتركه فلا يحتاج هذا المال إلى وصية، قال صلى الله عليه وآله وسلم (خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تبقى حتى إذا كانت ههنا -أي: الروح- قلت: هذا لفلان، وهذا لفلان، وقد كان لفلان) يعني: بغير أن تتكلم، وبغير أن توصي هذا المال سيذهب رغم أنفك إلى فلان إرثاً يرثه.