كل إنسان وليد بيئته، والبيئة تؤثر في الإنسان، ولا ينكر المرء أن البيئة تؤثر فيه، بل حتى المركوب يؤثر في صاحبه، ولست أعني بالمركوب الحذاء، بل ما يركبه الإنسان من الحيوانات فهو يؤثر في صاحبه، ودليلي في هذا من السنة، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالخيل من طبعها أن فيها نوعاً من الكبر، والإنسان حين يركب الخيل يشعر بالعظمة، وكانت هذه هي علامة العظماء آنذاك، كما في حديث أم زرع، الحديث الجميل، قالت أم زرع وهي تصف زوجها السابق؛ لأن أبا زرع طلقها، إذ أنه -كما قالت- (لقى امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، قالت: فنكحت بعده رجلاً سرياً): من سراة الناس وأشرافهم.
(ركب شرياً) الشري: هو أجود أنواع الفرس.
(وأخذ خطياً) الخط: مدينة كانت في البحرين، وكانت الرماح تجلب من الهند إليها، ثم توزع منها على جزيرة العرب، فنسبت السهام إلى الخط، وهي البلد التي توزع منها هذه الرماح.
فالخط: هو الرمح، فزوجها هذا يركب فرساً ولكي يكمل مشهد الفخامة يضع الرمح تحت إبطه وهو راكب.
فهذا الكبر الذي في الفرس ينتقل إلى صاحبه، وأنت تلاحظ هذا في أي إنسان يركب سيارةً فارهة، ونحن عندنا -مثلاً- أحدث نوع من أنواع السيارات هي (المرسيدس) ثمنها مليون وسبعمائة ألف جنيه، هذا ثمن سيارة وهي سيارة (مرسيدس) ضد الرصاص -أي: مصفحة- وأول من أدخلتها مصر راقصة! ولهذا كان اسم هذه السيارة- بكل أسف- (الفاجرة).
وسيارات (المرسيدس) لها أسماء كثيرة مثل (الشنزيرة) و (التمساح) و (الشبح) و (الزنمكة)، و (البودرة).
والبودرة هذه نسبة إلى تجار الهروين؛ لأنها سيارات باهضة الثمن، ولا يستطيع شراءها إلا تجار الهروين فقط، والشبح سموها باسم طائرة الشبح الأمريكية التي شاركت في حرب الخليج.
فعندما يركب الإنسان سيارة فارهة فإنه يحس بالكبر.
حدثني بعض أصحابنا ممن كان يركب هذه السيارات، ثم استبدلها عندما التزم، فكان يحكي لي لما سمع مني هذه المعلومة، قال: أنا أصدق الذي تقول؛ لأنني حين كنت أقود السيارة وارى سيارة أمامي، فإني أظل أضايق صاحبها بالأنوار، وأزعجه ببوق السيارة، وأنظر إليه باحتقار، وأكاد أضربه لماذا؟ لأنه تصور أنه انتقل إليه ثمن السيارة.
ويقول: لما كنت أنزل عند صاحب الفواكه أنزل وأنا مغتر بنفسي، وأقف عند باب (العربية) بشكل ملفت.
وقد أثبتت ذلك الدراسات، والذين يدرسون علم النفس يقولون بهذا، حتى وصل بهم الحال أن يقولوا: إن أكل اللحوم من حيوان معين يمكن أن يكسب الإنسان بعض صفاته.
والبيئة تؤثر في صاحبها.
فالإنسان الذي يعيش في البادية تجده جلداً، يقف في الشمس الساعات الطوال، ولا يدركه نصب ولا تعب ولا أي شيء من هذا وكذلك البيئة الصحراوية تؤثر في أخلاق من يعيش في الصحراء فيكون خلقه صحراوياً أيضاً، مثلما قالت أول امرأة في حديث أم زرع: قالت: (زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل).
فهي تصف زوجها بأنه رجل جاف سيئ الخلق: (زوجي لحم جمل غث)؛ لأن لحوم الجمال أكثر الناس لا يأكلونها إلا نادراً -وهي من لحوم الجمال الجيدة- أما هذا فشبهته بلحم جمل غث، أي: رديء، هذا اللحم من الجمل الغث وضعوه على قمة جبال عالية، فمع رداءته انظر أين وضعوه، (لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل) ويا ليت اللحم الذي عليه جيداً فنتحمل المشقة في سبيل جلبه، فهي تشير إلى أنه في سوء خلقه كالجبل الوعر.
ففي القرى كان الرجال يعاملون النساء معاملةً قاسية، ليس للمرأة إلا أن تلد وتخدم الرجل، فلما جاءوا إلى المدينة بلد الحضر، -يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه- طفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.
وهذا من أدب عمر؛ فمع أنه معترض على هذا الخلق الجديد، إلا أنه لم يقل: (فطفق نساؤنا يأخذن من قلة أدب نساء الأنصار) وإنما قال: (يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية: قال: (يأخذن من أرب نساء الأنصار)، والأرب: هو العقل والطريقة.