فبدأ يحصل بينه وبين والده مجادلات، فوالده كان حنفياً جلداً، (جلد) أي: لا يخالف مذهب الأحناف في قليل أو كثير، ومن المعروف أن مذهب الأحناف يخالف كثيراً من الأحاديث الصحيحة، حتى إن العلماء أخرجوا كتباً في الرد على أبي حنيفة منهم الأوزاعي، ومنهم أبو بكر بن أبي شيبة له في كتاب المصنف كتاب كبير اسمه (الرد على أبي حنيفة فيما خالف فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم) فكانت تحصل مجادلات بين الشيخ وبين أبيه.
يقول الشيخ الألباني: فكان والدي كلما عجز عن الإتيان بحجة في مقابلي كان يرفع صوته ويقول: علم الحديث صنعة، ويأبى عليه أن يعارضه في شيء من الحديث، حتى كثرت مخالفته مع أبيه.
ثم في يوم من الأيام، كان والد الشيخ الألباني على سفر، فجعل الشيخ البرهاني -وهو أحد مشايخ الشيخ الألباني - خلفاً له في صلاة الجماعة، وكان الشيخ الألباني في ذلك الوقت تبنى كراهة الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب، وعلم مع دراسة الأدلة أن هذه المسألة مكروهة، وكان من شؤم تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب أن المسجد الواحد كان فيه أربعة محاريب: محراب للمالكية، ومحراب للحنفية، ومحراب للشافعية، ومحراب للحنابلة، وكان إمام الشافعية يصلي أولاً، لأن الشافعية يصلون الفجر بغلس -أي: في أول الوقت- والحنفية يصلون الفجر بإسفار -أي: في آخر وقت صلاة الصبح بعدما يسفر الفجر- فلما علم الشيخ الألباني أن الجماعة الثانية في المسجد لا تجوز وأراد خليفة والده أن يستخلفه إماماً؛ لأنه يريد السفر أبى ذلك، وقال: أنا لا أخالف ما أعتقده، فأنتم تؤخرون الصلاة، وإمام الشافعية يصلي قبلكم وكل هذا في مسجد واحد!! وقد قال الشيخ أحمد سالم رحمه الله: ولقد رأيت هذه المحاريب الأربعة في الجامع الأزهر، وكانت هذه المسألة جارية ومسألة عادية لا تعارض فيها ولا إشكال، وكل هذا بسبب غياب الدليل وعدم الرجوع إلى النص، وعدم الوقوف عند حدود ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبدأت هذه المخالفات تظهر في رفض الشيخ الألباني أن يصلي بدل الشيخ البرهاني، بل كان يصلي مع الشافعية؛ لأنها أول جماعة تقام، فلما رجع والده من السفر حكى له الشيخ البرهاني الذي كان من ابنه، فأضمرها الوالد في نفسه، ولكنه بدأ يحصل نوع من الشقاق والنزاع بين الشيخ وبين أبيه.
ولقد قرأ الشيخ الألباني -وهو يواصل القراءة في عقيدة السلف- أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لا تجوز، وشاع في دمشق أن المسجد الأموي دفن فيه سبعون نبياً، قال الشيخ ناصر: فجعلت أفتش عن أصل هذا الكلام، فإذا سنده ضعيف جداً ولا أصل له، وأن هذه الحكاية لا تصح عن أحد من أئمة المسلمين ولا من المؤرخين.
قال: فجمعت بعض ورقات في هذا الباب كانت نواة لكتابي (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) قال: ورفعت هذه الأوراق إلى الشيخ البرهاني وكان شيخي، وقلت له: في هذا البحث حرمة الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فقال: هات الأوراق، وقال: سأرد عليك بعد العيد.
فلما كنا بعد العيد قال: لم تصنع شيئاً، ونحن إنما نأخذ الدين من كتب الفقه لا من كتب الحديث.
قال الشيخ: وفي يوم من الأيام وبعد أن تعشينا قال لي والدي بلسان عربي مبين: إنك أكثرت مخالفتي ومخالفة الموروث من المذهب، فإما أن توافق وإما أن تهاجر.
فقلت له: أمهلني ثلاثة أيام حتى أنظر في أمري.
قال: ولما مضت الأيام قلت لوالدي: أنا لا أستطيع أن أترك ما أعتقد أنه الحق، ولا أستطيع أيضاً أن أزعجك، فسأهاجر.
وهذا هو الذي نقوله لإخواننا الذين يتعرضون للضغط والإرهاق في بيوتهم من قبل آبائهم المناوئين لهم في التزامهم وإن كثيراً من الآباء يحلف بالطلاق إن لم يحلق ابنه لحيته ونحن نقول لهذا الولد: أطع ربك وأطع أباك، أطع ربك لأنه هو الذي أمرك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفي لحيتك، وأطع أباك إذا أمرك بالخروج من البيت، فلا تحلق لحيتك واخرج من البيت، وبذلك تكون قد أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون قد أطعت أباك أيضاً الذي أمرك بالخروج.