أيها المسلم! هل أنت جاد في طلب الطريق الوحيد الذي يوصلك إلى الله؟ هل أنت وجل وخائف أن تزل بك القدم فتعير أذنك لشخص من إحدى الفرق الثلاث والسبعين شخص له منطق عذب وبيان حسن؛ فتضل وتذهب معه، وأنت تعلم أن الذين ضلوا ما أتوا من غباء؟! فها هو أمير المؤمنين المأمون كان يوقر عمرو بن عبيد رأس المعتزلة، وكان عمرو بن عبيد رجلاً زاهداً، يضرب به المثل في الزهد والتقلل من الدنيا، فكان المأمون إذا رآه يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد (كلكم يمشي رويد): أي: يمشي الهوينا وهو يتلفت، رجل يريد أن يصطاد؛ لكن الزاهد الذي لا ينوي إلا غايته لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهو: رجلٌ زاهد ولا يطلب صيداً من أحد، وهو مع ذلك رأس في الضلال، ذكر له حديث، فقال: من رواه؟ قالوا: جابر بن سمرة، فقال: قبح الله جابراً! وجابر بن سمرة صحابي.
إن البوابة التي عبر منها أهل البدع هي عدم احترام أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعدم الاكتراث بهم، والزعم أنهم رجال وهم رجال، حتى لا تتم الأسوة بهم، ومذهب أهل السنة والجماعة معروف، فالطريق الوحيد له ثلاثة أصول: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، أي: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، (ما عليه اليوم أنا) هو الكتاب والسنة، (وأصحابي): هذا هو الأصل الثالث.
أما المبتدعة فإنهم لا يقيمون للصحابة وزناً، ولا يرفعون لهم رأساً، فالأمر إذاً جد خطير.
جاء في حديث الخوارج الذي رواه البخاري ومسلم أن ذا الخويصرة جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل! فقال: ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟ فلما تولى الرجل وأراد خالد أن يقتله، قال له: دعه، فإن له أصحاباً، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، فهم عباد زهاد يصلون ويصومون؛ لدرجة أن الصحابة الأبرار الأجلاء يحتقرون أعمالهم إذا نظروا إلى جدية هؤلاء في العبادة.
إذاً: لا تغتر بسمت مبتدع حتى تعلم أنه على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.
ما ظهرت الثنتان والسبعين فرقة إلا بضلالهم عن الطريق الوحيد، والطريق الوحيد -أيها الإخوة- هو أول طريق سُنَّ للمسلمين: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، (الفرقة الواحدة) هي أول فرقة ظهرت، أما باقي الفرق فلم تظهر إلا بعد الفرقة الأولى الناجية.
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات اثنتان وسبعون فرقة ضالة جاءت بعد ظهور الطريق الوحيد إلى الله عز وجل، إذاً فكيف بنا الآن، لا سيما بعد اندثار آثار النبوة، وموت العلماء الربانيين، وظهور علماء السوء بين المسلمين، فصار البحث عن الطريق في غاية المشقة، وإنما يسهل البحث إذا كثر الأدلاء عليه، فإذا كثر الأدلاء على الطريق هان عليك الأمر، أما إذا ذهب هؤلاء العالمون به، فما أتعس العامة بدون العلماء! إذاً: هذا هو الأصل الذي نؤصله لهذه القضية الخطيرة وهي: (كلها في النار إلا واحدة)، فالقرآن موجود، لكنهم يؤلونه ويحرفونه، فعندما أنكرت المعتزلة رؤية الله عز وجل يوم القيامة، هل أنكروا القرآن؟ لم ينكروه؛ بل احتجوا به على نفي رؤية الله عز وجل، مع أن السلف رحمهم الله، أجمعوا إجماعاً ظاهراً بدلالة النصوص على أن الله عز وجل يُرى في الآخرة قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15].
قال الشافعي رحمه الله: هذه الآية حجةٌ لأهل السنة أن الله عز وجل، يُرى في الآخرة بدلالة حجب الكافرين؛ إذ لو كان المسلمون محجوبين أيضاً عن رؤية الله، لما كان في حجب الكافرين عن الرؤية معنى.
فلم يقل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] إلا لأن آخرين لا يحجبون، ولو كان الكل محجوبين لما كان لهذه الآية معنى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فهل أنكر المعتزلة هذه الآية؟ لم ينكروها، إنما قالوا: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] (إلاً) هكذا بالتنوين، وجمعها آلاء، أي: إلاً ربها ناظرة، أي: هي تنظر إلى آلاء الله ونعمه.
فما أنكروا القرآن، ولو أنكروه لكفروا، لكنهم حرفوه، وهذا هو الذي صنعته كل الطوائف الضالة.
فالصحابة رضوان الله عليهم سمعوا الآية، وعلموا أنه لا بد من عمل، وعلموا أن العبد مختار، وعلم العبد لا يجاوز شراك نعله؛ لذلك لا يجوز عليه أن يحكم في المآل وهو لا يعلم ما ينتهي إليه الحال، مع ظهور الحال، فكيف إذا كان المآل في غاية الخفاء؟! كما قال الله عز وجل في قصة موسى وفرعون: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، فلو كان فرعون يعلم أنه سيكون له عدواً وحزناً لما التقطه، ولا رعاه ولا رباه؛ لكنه التقطه وهو يظن أنه سيكون قرة عين له، فمن الذي يعلم هذا المآل؟ إذاً: هذه الآية: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]، إشارةٌ إلى نفاذ إرادته تبارك وتعالى، وأنه الغلاب، وأن العبد لا ينبغي له أن يغتر بظاهر الحال؛ فليس له إلا التسليم، فقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، إشارة إلى هذا القهر، وأنك لا بد أن تسلم؛ لأنك لا تعلم، وعدم العلم هنا ليس هو الجهل، بل قد يكون العلم النظري غير المصحوب باليقين: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، أي: لا يوقنون أن الله غالب على أمره، وأنه قادر على كل شيء.
أحد الذين هربوا سنة (1964م) من السجن إلى دولة عربية أراد أن يرجع إلى بلاده، فخاف أن يقبضوا عليه في المطار، فذهب إلى صديق له دبلوماسي كبير، وقال له: أريد منك أن تكتب لي خطاب تزكية إلى رجل ليستقبلني في المطار.
وكان الرجل ذكياً فطناً، وظاهر القصة تدل على أن الرجل عنده فهم، فقال له: أنا سأكتب لك إلى شخصية كبيرة، لكن لا تفتح هذا الخطاب إلا في المطار (مطار القاهرة) وأنا سوف أتصل، فأخذ صاحبنا الخطاب ولما نزل في مطار القاهرة وفتح الخطاب، وجد أنه قد كتب فيه: (قل: يا رب!) فقط.
هذا هو ما عناه ذلك الدبلوماسي، قال حاكي القصة: فاقشعر بدني لما قرأت هذه العبارة؛ لأنه قال له: أنا سوف أتصل، وكان يعني بالاتصال: الدعاء والمناجاة، ونزل الرجل ومضى، وانتهى الأمر.
فهذا الرجل يعلم أن الله عز وجل على كل شيء قدير، لكن ليس عنده يقين، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] أي: لا يوقنون، فعدم العلم هنا مشتمل أيضاً على عدم اليقين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.