وما أنصف ما دعا به إبراهيم عليه السلام قومه وهو يعرِّف صفة إلهه العظيم -الذي يعبده لأول مرة- لهؤلاء، وكانت مفاصلة بينه وبينهم، قال عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فكأنه سئل: وما رب العالمين؟ قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
كلام الأنبياء موزون، ليست هناك لفظة زائدة؛ لأنهم معلمون: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] تأمل سياق الآيات؛ لتعلم أن أي نوع اشتراك بين العبد وربه كان يلغى بالبيان: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80].
يقول علماء اللغة: إن ضمير الرفع المنفصل الذي لا محل له من الأعراب يأتي لتأكيد الكلام، (هو) ضمير رفع منفصل جاء لتأكيد الكلام، كرر في الثلاث الآيات الأولى، ولم يذكر في الرابعة؛ لأن في الآيات الثلاث الأولى شوب اشتراك بين العبد وربه، الهداية: لفظة يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى، لكن الهداية من العبد بيان وإرشاد، ومن الله هداية على الحقيقة، لذلك أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم مرة ونفاها مرة، فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
الهداية الأولى التي أثبتها له هداية بيان ودلالة، والهداية التي نفاها عنه هداية أثر، فالأثر لا يكون إلا من الله، السبب والفعل منك والتأثير من الله، لذلك ليس بالضرورة أن يؤتي السبب الأثر؛ فالعبد قد يأخذ الدواء ويموت مع أنه أخذه ليشفى من مرضه لكنه مات به، فلو كان لابد أن يشفى كل إنسان بهذا الدواء لشُفي الكل.
الطعام أنت تأكله لتزيل علة الجوع، ومع ذلك أحياناً تأكل ولا تشبع، فلو كان الطعام لابد بالضرورة أن يدفع الجوع لشبع الإنسان بعد الأكل، وأحياناً تشرب فما تزداد بعد الشرب إلا رغبة في الشرب حتى تكاد بطنك أن تنفجر وأنت ما زلت ظامئاً، فلو كان امتلاء المعدة بالماء يدفع الظمأ لدُفع الظمأ بذلك.
الهداية من العبد بيان، ومن الرب تبارك وتعالى تأثير، فلما كان ذلك موضع اشتراك بين العبد وربه -كأن يقول العبد: كنت ضالاً فهداني فلان- فقال إبراهيم عليه السلام: لا.
الهداية الحقة إلى التوحيد لا تكون إلا من الله، ولذلك أثبتها بهذا الضمير، قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] لا غيره، هذا معنى الكلام.
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا فلان أطعمني وسقاني، فكأنه قال له: إن فلاناً ما زاد على أن أعطاك سبب دفع الجوع فقط، أما الشبع والري فهما من الله، ومما يؤكد هذا الكلام ما ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اسقني يا محمد! فحلب له سبع شياه والرجل يشرب، ثم شبع، فأسلم الرجل، فجاء في اليوم الثاني فقال: اسقني يا رسول الله! فدعا بشاة فحلبت له فشرب وأبقى فضلة وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) أي أن الكافر قد يأكل أكل سبعة ولا يشبع، وأقول: (قد يأكل) وحرف التحقيق إذا دخل على الفعل المضارع أفاد الشك حتى لا يأتيني رجل يقول: هناك من الكافرين من يأكل عشر ما يأكل المؤمنون، فيعترض على الحديث بهذه القضية!! لا.
ومن علمائنا من حملها على أنها واقعة عين مخصوصة بهذا الرجل.
لكن المقصود أن دفع الجوع وإثبات الري من الله تبارك وتعالى، فلما حدث التباس في مسألة الأكل والشرب أكدها إبراهيم عليه السلام بهذا الضمير، أي: هو الذي يطعمك لا غيره، سواء بالسبب أو بالأثر، فإن ما في الأرض ملكه، ولو شاء لأمسك الأمطار فهلك كل من على الأرض، ففي حقيقة الأمر كل ما ملكت يداك هو ملكه وأنت ملكه، فالسبب والأثر ملكه.
قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] من الجائز أن يقول العبد: كنت على شفا الموت لولا الطبيب الفلاني الماهر الذي شفاني، فكأنه قال له: لا؛ لأن الطبيب هذا يموت بنفس العلة التي يداوي منها، وما ألطف ما نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر عندما قال: (لا عدوى ولا طيرة فقال رجل: يا رسول الله! فما بال الجمل الأجرب يعدي السليم؟ -هل هذا نفي لوجود العدوى إذا كان ذلك كذلك؟ فكيف والحس والواقع يقول: إن الجمل الأجرب يعدي السليم- فقال له: فمن أعدى الأول؟) أول جمل جربان على وجه الأرض من أعداه؟ يريد أن يقول: إن العدوى لا تنتقل بذاتها، إن الله هو الذي ينقلها بدليل: (من أعدى الأول؟) فليس بالضرورة إذا كان هناك مرض معدٍ إذا لامست صاحبه تصاب بنفس المرض، لا يقول هذا أبداً ذو علم لا في الطب ولا في الشرع، لكن اقترابه من مصدر العدوى مظنة العدوى وليس بالضرورة أن يحمل العدوى.
فلا عدوى هنا تنتقل بذاتها، إنما ينقلها الله تبارك وتعالى، فهذا سبب لكن الأثر من الله تبارك وتعالى، فهو الذي ينقله وهو الذي يحجبه إذا أراد.
قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] تأمل اللطف في الكلام، لم يقل: وإذا أمرضني، بل نسب المرض إلى نفسه تأدباً من أن ينسب الشر إلى الله، كما قال الخضر: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82] ولما ذكر السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب إثبات العيب لنفسه وإرادة الخير إلى الله تبارك وتعالى تأدباً.