ينبغي ألا يفرط المرء في دينه بمجرد أن يعايش شيئاً من الإرهاص في الدنيا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وهذا من الحمق، وقلة الصبر، وضعف القلب كيف يجعل إيذاء الناس كعذاب الله؟! {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26]، فكيف تسوي بين هذا وبين عذاب الناس؟ لكن القوة قوة القلب، والضعف ضعف القلب.
الدعاة إلى الله تبارك وتعالى إذا فرطوا ظهر كل خبث في الأرض، إن كل البدع الموجودة الآن بسبب سكوت العلماء، ماذا يطلبون؟ ماذا يريدون؟ يريدون مالاً؟ ضعف الأزهر يوم صار شيخه بالتعيين من قبل الحكومة، وكان قديماً قوياً؛ لأن الذي كان يعين شيخ الأزهر وينتخبه هم العلماء، وذهبت الأوقاف لما ذهبت أوقافها، واستذل العلماء بلقمة عيش؛ فصار أحدهم لا يستطيع أن يجهر بكلمة الحق.
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها لذلك إذا وجدت العلماء عندهم جرأة على إقامة الحق؛ تختفي الخفافيش، لكن إذا رأيتهم يهاجرون، تنتهك أعراض الأمة وهم سكوت، وتعتلي القلة القليلة على الكثرة الكاثرة، ولا يظهر على الساحة إلا من يقول بالسماحة، والإسلام دين السماحة، كأن الإنسان عاجز عن تأديب المخالفين، هو يقول: الإسلام دين السماحة ولا يظهر إلا هذا، حتى ظهر الأمر في المرجئة بأقبح وجهٍ في هذا العصر.
الآن خطباء المساجد منعوا أن يتكلموا عن النار وعذابها وحيَّاتها وعقاربها، يقول لك: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بشروا ولا تنفروا) فإذا ذكرت رجلاً عاصياً بعذاب الله نفرته، أي تنفيرٍ في هذا؟ إذاً: رب العزة نفر الناس من الدين! عندما ذكر عذاب النار ولهيبها وشدة اضطرامها! النبي عليه الصلاة والسلام نفر الناس من الدين، عندما قال لهم -وقد سمع الصحابة صوتاً، أي: ارتطام حجر بالأرض-: (هذا حجر ألقي من أعلى النار منذ ألف عام، فما وصل إلى قعرها إلا الآن).
وعندما يتكلم النبي عليه الصلاة والسلام عن الغسلين والزقوم كان ينفر الناس من الدين! نفترض أننا نتكلم عن الجنة، وأن كل الناس سوف يدخلون الجنة، ولن يدخل النار أحد -حتى النصارى، وجد في المسلمين من يكتب كتاباً أن اليهود والنصارى في الجنة، وأنهم من المؤمنين، وجد هذا وطبع ونشر، وقبل أن ينشر في كتاب نشر على صفحات صحيفة الأخبار سنة (76) م-.
فإذا وصل الحال إلى هذا التردي، ولا يميز الذين آمنوا من الذين كفروا، ولا بد أن يستخفي الذين آمنوا إذا حصلت شبهة مع الذين كفروا! فمتى يقام لله تبارك وتعالى دين في الأرض؟ لا يمكن أن يمكن لنا ديننا، إن الله تبارك وتعالى لا يحابي أحداً، لسنا أعز عليه من اليهود والنصارى إذا كنا مثلهم: ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده نسب إلا التقوى والعمل الصالح: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] (أقاموا الصلاة) فإذا كان لا يصلي في الأرض كيف يُمكن له؟ لذلك كان قيام شيخ الإسلام ابن تيمية -والمخلصون من أصحابه- كان له أكبر الأثر في دخول خفافيش أهل البدع في جحورها، وما طائفة الرفاعية عنا ببعيد؛ الرفاعية الذين يتعاملون مع الثعابين، ويأكلون الزجاج، ويدخلون النار في أفواههم، ويدخل السيخ في بطن أحدهم فيخرج من ظهره.
أغلب الناس بسطاء ينخدع بهذا ويظن أنه من علامة الولاية، وهذا من الخطأ المتفشي عند العوام: أنهم يجعلون الولاية مجرد الخارقة، وهناك فرق بين الأشياء الخارقة وبين الكرامات، فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما رأى مثل هذا الأمر وهاله ذلك، والناس من أتباعهم كل يوم يكفرون، وقف لهم، وبين عورهم، وأنهم مخالفون للكتاب والسنة عقيدةً وفقهاً؛ ولأن الرجل كنا نحسب فيه الإخلاص كان كلامه عليه نور وفيه حرارة؛ فأثر هذا فيهم.
وشكوه إلى السلطان وقالوا: ابن تيمية يتكلم في الأولياء، فقال شيخ الإسلام: ما هم بأولياء إنما هم مبتدعة، فجمعهم السلطان بعد مظاهرة منهم، وحصلت مناظرة بين شيخ الطريقة وبين شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان الظفر لشيخ الإسلام ابن تيمية كالعادة في كل مناظراته -وكان في المناظرة كما يقول الذهبي: كأنه ليث حرب، ونار تحرق في المناظرة، قوي الحجة-.
قال السلطان: ولكنهم لا يفعلون ذلك إلا بتغيير، أي: الرجل يأكل النار، ويضع السيخ في بطنه ويخرج من ظهره، ويأكل الزجاج، وهم بشر مثلنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنا وهم ندخل هذه النار، بشرط أن نغسل أجسامنا بماء الخل، فإنهم يدهنون أجسامهم بدهن الضفدع وذكر أشياء هم يفعلونها، قال: سأغسل جسمي بالخل، وهم كذلك يغسلون أجسامهم بالخل، وندخل جميعاً النار، فمن احترق فعليه لعنة الله، وجعل يشد الرجل ويقول له: قم بنا ندخل النار، فمن احترق فعليه لعنة الله.
فلما رأى السلطان جرأة شيخ الإسلام والرجل الصوفي مرتعداً، والحق أصبح واضحاً أبطل هذه الطريقة، ورفع منار دعوة شيخ الإسلام رحمه الله، فلما سئل شيخ الإسلام بعد ذلك عن دخول النار، وأنه لا يجوز لعبد أن يدخل النار مختاراً، وكيف لو قام الرجل ودخلها؟ فقال شيخ الإسلام رحمه الله: كنت أعلم أنني لو دخلتها لوجدتها كنار إبراهيم عليه السلام لقوة رجائه في الله، فقوة الرجاء في الله وصدق اليقين يحرك الحجر.
وما قصة جريج عنا ببعيد: لما خرج عن قومه وهجرهم، وبنى له صومعة خارج البلد يتعبد فيها، وقد انقطع عن الناس، ولم يجعل للصومعة سلماً حتى لا يصعد إليه أحد فكان إذا أراد أن ينزل نزل بحبل وتركه حتى يقضي حاجته ثم يتسلق بالحبل، وبعدها يشد الحبل، حتى لا يخالط أحداً.
فكانت أمه كل عدة أيام تذهب إليه وتنادي عليه، تريد أن تراه، فوافته يوماً وهو يصلي، فجعلت تقول: يا جريج! أجبني -ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على حاجبه يمثل أم جريج عند دعائها لولدها- فصادف أن كان جريج يصلي، وسمع دعاء أمه، فقال في نفسه: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي؟ يعني: أجيب أمي أو أكمل صلاتي، فاختار صلاته على دعوة أمه، ورجعت الأم مشتاقة لولدها لم تره.
ولما جاءت في اليوم الثاني ونادت: يا جريج! أجبني.
صادفته وهو يصلي، فقال: رب! أمي وصلاتي، أمي وصلاتي؟ فاختار صلاته على دعوة أمه.
وفي اليوم الثالث جاءت أيضاً فنادت: يا جريج! أجبني.
فصادفته وهو يصلي: فاختار صلاته؛ فدعت عليه: ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات اللواتي فر منهن، فر من فتنة النساء، فدعت عليه ألا يموت حتى يرى وجوه اللواتي فر منهن.
تحدث الناس -وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه- عن عبادة جريج ما أعجبه! كيف له صبر أن ينقطع عن الناس؟ وكيف له صبر أن يتعبد كل هذه العبادة؟! فقالت امرأة بغي: إن شئتم لأفتننه لكم، قالوا لها: قد شئنا.
فذهبت المرأة وتعرضت لـ جريج فلم يلتفت إليها، فمكنت منها راعي غنم كان يأوي إلى ظل الصومعة ليرعى غنمه، فحملت المرأة وصارت تمشي، وأصبح جميع الناس يعلمون أن هذه المرأة حامل من جريج، وقالت: فتنته لكم، وهذا الولد منه.
تركوا المرأة لما ولدت، وهنا جاءت فرصة اليهود، وأدركتهم الغيرة على الشرع والدين، كل شخص أخذ الفأس وذهبوا إلى جريج، وهم الذين قالوا للبغي: إن شئت فتنته.
العابد جريج يصلي وإذا به يفاجأ بأصوات تكسير! فقطع صلاته ونظر، فإذا بهم يكسرون الصومعة من تحته، سيهدمونها عليه، قال: ما الخطب؟ قالوا: انزل يا فاجر! أحبلت المرأة؟! كنا نظنك أعبدنا.
فدلى الحبل ونزل، فأوسعوه لكماً وضرباً: يا فاجر! يا داعر! نسأل الله تبارك وتعالى أن يستر علينا خطيئاتنا يوم القيامة، فإن منا من يظهر النسك ويوم القيامة يكون فاجراً يتفرج عليه عباد الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالعالم يوم القيامة فيقذف في النار، فيدور حول أمعائه -لأنها تندلق من دبره- ويدور حولها كما يدور الحمار في الرحى، فيقول أهل النار: يا فلان! أو لم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) شيء فظيع! كل الناس وقعوا في صفين يتفرجون على جريج، ومن اللواتي وقفن على قارعة الطريق المومسات، فلما رآهن جريج -وقد كتفوه ليقيموا عليه الحد، فهذه النخبة اليهودية تدعي الورع اليهودي الكاذب- تبسم.
فاندهش الناس؛ لأن هذا ليس وقت تبسم، هذا وقت إرهاص واضطراب.
فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أدركتني دعوة أمي -ألا يموت حتى يرى وجوه المومسات- وذهبوا به إلى ملك القرية، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن المرأة الزانية هي بنت الملك، فيا للعجب! يعني: ابنته زانية وتركها، ويريد أن يقيم على الزاني -بزعمهم- الحد! هلا أقمت الحد على المرأة أيضاً؟ ويحك يا جريج! كنا نظنك أعبدنا فأحبلت المرأة! قال: دعوني أصلي ركعتين -كل إنسان إذا اضطر ليس له إلا الله- صلى ركعتين، ثم قال: أين الغلام؟ جيء بالغلام الرضيع وهو ابن يومين أو ثلاثة، فأخذه فنخسه في جنبه بإصبعه، وقال: من أبوك يا غلام؟! فقال الغلام: الراعي.
ونطق وهو ابن يومين أو ثلاثة! هل جرت العادة أن ينطق الطفل وهو ابن يومين أو ثلاثة من لدن آدم عليه السلام إلى زمان جريج؟ لا ما جرت العادة بذلك، لكن صدق رجاؤه في الله فأنطق الغلام، وليس الذي عاين الخبر كالذي سمعه.
لذلك يقول