أهمية التأدب والوقار بين يدي العلماء وأهل الفضل

وهنا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) الوصف الذي هنا كلمة (شديد) كررها عمر بن الخطاب مرتين، وهناك وصف آخر أيضاً وهو: (بياض، وسواد) فعندما يقول لك: (شديد بياض، شديد سواد) إذاً لفت نظر عمر بن الخطاب شيء مهم جداً، وهو الذي دعاهم جميعاً إلى استغراب الموقف كله، وهو أن هذا الرجل آتٍ من بيته، وإلا لو جاء من مسافة بعيدة لاتسخت ثيابه، ولتغير لون شعره، فبدلاً من أن يكون شديد السواد صار رمادياً مثلاً من التراب، وهذا يعني: أن الرجل اغتسل وخرج من بيته إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فلا يوجد بينه وبين الرسول سوى مسافة قصيرة، هذا معنى: شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فمن أين أتى هذا؟!! فلو كان رجلاً مدنياً من أهل الحضر لعرفناه، وانظر إلى كلمة: (لا يعرفه منا أحد) وطأ لها بذكر النكرة في مطلع الكلام، وذكر النكرة في الإثبات تفيد الإطلاق.

(إذ طلع علينا رجل) فهو يوطد بكلمة (رجل) التي هي نكرة بقوله: لا يعرفه منا أحد؛ لأنهم كلهم كانوا يعرفون بعضهم في المدينة، وسمعت بعض أهل العلم من علماء المملكة يقول: إن المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت هي التي تحت المسجد النبوي الآن، ما عدا أهل العوالي، هذه هي المدينة كلها: عبارة عن أبيات محصورة معروفة، كل الصحابة يعرف بعضهم البعض، فعندما يأتي رجل لا يظهر عليه أثر السفر، ونظيف، ولا نعرفه، فهذا مما يدعو للعجب، والغريب أنه جاء في سمت جفاة الأعراب، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يوقرون النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغاية القصوى، وإذا رأوا رجلاً يخالف مقتضى الأدب في حضرته عليه الصلاة والسلام كانوا يزجرونه ويؤدبونه، والصحابة الذين عاشوا معه عليه الصلاة والسلام تأدبوا بأدب القرآن: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] قال أنس: (فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية يسأل)، وإنما ذكر العاقل، لأن الأحمق أو المجنون سوف يتكلم بأي كلام فيضيع عليهم الأسئلة، ويضيع عليهم الإجابة، فلا يستفيدون شيئاً، لكن لو كان رجلاً عاقلاً رزيناً أسئلته تمس الحاجة فإنهم يستفيدون منه.

فهذا الرجل جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وهذا أيضاً من الملفت للنظر؛ لأن الآتي من البادية ما كان يميز النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وإنما كان يسأل عنه، لماذا؟ لأنه كان يجلس وسط أصحابه، كما في حديث عند البخاري وغيره أن رجلاً وهو ضمام بن ثعلبة جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أيكم محمد؟ -لا يعرفه- فقالوا: هو ذلك الرجل الأبيض المتكئ)، فلم يكن يعرفه، فلما رأى الصحابة ذلك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (هلّا صنعنا لك منبراً؟!) حتى يجلس عليه إذا جاءته الوفود، بدلاً من أن يسألوا عنه، فيعرفوا أنه هو الجالس على المنبر، قال: (إن شئتم، فصنعوا له منبراً من يومه) فهذا جاء غريباً عن الناس وعرف النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل مباشرة وقال: (حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه وقال: يا محمد) وهذه ليست طريقة أناس تأدبوا بأدب القرآن، فدخل مباشرة ووضع ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ووضع يده على فخذيه، يعني: على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا وإن كان يجوز بين الأقران لكن لا يليق ولا يجوز مع أهل الفضل.

وحديث المسور بن مخرمة في الصحيحين فيه أن عروة بن مسعود الثقفي لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية قال: فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلما علم المغيرة بن شعبة أن عمه عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذهب -وهذه الرواية خارج الصحيحين- فتلثم وأتى بسيفه ووقف على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، فكلما تكلم عروة بن مسعود -مس لحية النبي صلى الله عليه وسلم بيديه- فيضربه المغيرة على يده بنعل سيفه ويقول له: أخر يدك!! فينظر ولا يعرف من الواقف، لماذا؟ لأنه ملثم، فينسى نفسه مرة أخرى ويتكلم كلمتين أو ثلاثة ويمس لحية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يضربه على يده ويقول له: أخر يدك! فينظر إليه فلا يعرفه حتى إذا كررها أكثر من مرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من هذا الذي أزعجني سائر اليوم؟ وقال له: سائر اليوم يعني: لم يقل هذا الوقت، فما كانوا يحتملون المكروه، أو كقول أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك سائر اليوم!! يعني: يدعو عليه من أول اليوم إلى آخره، فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة) فقال: (أي غُدَر! -أي: أيها الغادر- لا زلت أسعى في غدرتك، وهل غسلت سوأتك إلا أنا بالأمس؟!!) وكان المغيرة قد صحب ثلاثة عشر رجلاً من أهل الجاهلية، فشربوا الخمر فسكروا، فقام عليهم فذبحهم جميعاً وأخذ أموالهم، وهرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، وأعطاه المال بعدما حكى له الحكاية: أنهم سكروا وذبحتهم، وجئتك مباشرة أعلن إسلامي، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما الإسلام فأقبله منك، وأما المال فلست منه في شيء إنه أخذ غدراً) فهو سيد الأوفياء عليه الصلاة والسلام.

وفي الصحيح أن حذيفة بن اليمان لم يشهد بدراً، لأنه كان قد خرج مع أبيه فراراً من قريش إلى المدينة، فأمسكهم كفار قريش، وسألوهم عن وجهتهم؟ فقالوا: متوجهون إلى المدينة! فقالوا: لا ندعكم حتى تعطونا الميثاق أنكم لا تقاتلونا معهم، فأعطوهم ميثاقاً، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: عملوا فينا كذا وكذا وقالوا لنا: العهد والميثاق ألا تقاتلونا، وانظر هنا إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم لهم: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، فلذلك لم يقاتل حذيفة بن اليمان في بدر، ليس لأنه لم يكن موجوداً، ولكن لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) وهذه هي السياسة، وليس معناها أن تكون كل يوم بوجه، فالسياسة التي لا دين لها لا يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلّمها أصحابه؛ لأنها ليست هي السياسية الشرعية: (وفوا لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).

فالقصد أن عروة بن مسعود الثقفي لما كان يضع يده على لحية النبي صلى الله عليه وسلم فهذا وإن جاز أن يكون بين الأقران لكن لا يجوز أن يكون مع أهل الوقار، ويستقبح معهم، ويستقبح مع كبار السن، يعني مثلاً: رجل مثلي إذا أراد أن يدعو شيخاً كبيراً فلا يعامله معاملة المثل حتى وإن كان فوقه في العلم، لابد أن يحترم سنه وشيبته، هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويحكي لي أخونا الشيخ الحبيب أبو الفرج محمد بن إسماعيل حفظه الله يقول: مرة دخلت مع شاب عمره (17) عاماً لا يزال حديث عهد بالتزام، وكان يصحبه يتعلم منه، فدخلوا بقالة، فوجد الشاب رجلاً بلغ الستين من عمره يدخن (سيجارة)، فمباشرة ذهب هذا الشاب إلى هذا الرجل ووضع يده على كتفه، وقال له: ما اسمك؟ فأخبره باسمه، ثم قال له: ما هذا الذي في يدك يا فلان؟ ألم تعلم أنها حرام؟! ارمها تحت رجلك! يقول الشيخ محمد: فاستحييت، ليس لأنه أدركه الحياء لأن الولد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، لكن طريقة الأمر والنهي نفسها كانت طريقة سيئة، فمثل هذا الولد عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن منكم منفرين).

فإذا وجدت رجلاً كبيراً على معصية فتلطف به أولاً ولا تزجره ولا تجترئ، فإذا رآك تحترم سنه استحى أكثر، فمسألة التوقير مسألة مطلوبة، وهناك حديث تكلم فيه بعض أهل العلم وحسنه آخرون، وهو حديث: (أنزلوا الناس منازلهم)، فالراجح ضعف هذا الحديث، لكن معناه صحيح حتى وإن لم ننسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015