قوله: (والسوران: حدود الله): حين يكون لك قطعة أرض فإنك تسورها.
وحدود الله عز وجل فيها راحة إذا حدد لك الله ما يريده منك -أمر ونهي- كانت المسألة واضحة المعالم، ليست مبهمة، بل لا تعرف ما أنت مأمور به أو منهي عنه.
والحدود هذه فيها أبواب.
لماذا كانت هذه الأبواب لم تكن هي أبواب الحلال؟ لماذا هي أبواب الحرام؟ كان من الممكن أن يقول لك: الناحية اليمين أبواب الحلال، والناحية الشمال أبواب الحرام، ما معنى أن يكون السور ما فيه إلا أبواب الحرام فقط؟ قال الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه الحرام قليل أم لا؟ قليل؛ لأنه معدود هذه الأبواب تستطيع أن تعدها أم لا؟ تستطيع أن تعدها، إنما كل أبواب الحلال في الطريق، والحرام: عشرون أو ثلاثون باباً، مائة باب، خمسمائة باب، أما الحلال فإنه لا يعد، لا تستطيع أن تعده، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
إذاً من تمام رحمة الله: أنه جعل أبواب الحلال غير معدودة.
إذاً وسع عليك الحلال أم لا؟ لكن طالما قال لك: وفي السور أبواب، تستطيع أن تعدها، وكل ما حصره العد قليل وإن استكثرته، كل ما حصر بالعدد قليل وإن استكثرته، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: (بغير حساب) لأن كل شيء يأتي عليه العد فهو قليل وإن استكثرته، ولهذا يقول الشاعر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه لأنها إذا دخلت في نطاق العد كانت قليلة: من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط لا يوجد.
إذاً: حين يقول لنا: (وفيهما أبواب) فقد دلنا على أن الحرام قليل.
إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يعاقب أحداً فإنه يحرم عليه الحرام -كمثل غيره- ويأخذ جزءاً من الحلال فيحرمه عليه.
إذاً: ضيق عليه باب الحلال، كما قال عز وجل في حق اليهود: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161].
حرمت عليهم أشياء، ولما ظلموا حرم عليهم أشياء كانت حلالاً قبل ذلك قلنا: الحلال كثير، هل من أحد يستطيع أن يقول لي: أين الحلال في هذا الطريق الطويل؟ لا أحد يعرف ذلك؛ لكن هذه الأبواب معروفة.
إذاً: بالغ في تعريفنا بالحرام حتى لا نلجه، قلله أولاً، ثم عرفه ثانياً، لكيلا يأتي أحد فيقول: أنا لا أعرف الحرام.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] لا يقف عبدٌ أمام الله عز وجل خصماً له إلا خصمه، وأقام عليه الحجة؛ ولهذا بين الحرام زيادة بيان، والحلال -لأنه كثير جداً- لم يفصل لنا أفراده.
وأنتم تعلمون أن هذا الكلام عند علماء الحديث يشبه العدالة والجرح: أي راوٍ من الرواة حين ينقل حديثاً، ننظر في حاله أهو عدلٌ أم مجروح.
(مجروح) ليس معناها أن واحداً أخرج مشرطاً وقطع جلده! لا، (مجروح): أي: طعن فيه العلماء، قالوا: فاسق، رقيق الدين، زنديق، سيئ الحفظ، مُنْكَر الحديث هذه كلها جرح معنوي، وإنما قيل: (جرح) تشبيهاً بالجرح الحسي.
العدالة: هي صفات الكمال وجميل الخصال التي تكون في الإنسان، نقول مثلاً: دَيِّن، خيّر، ورع، تقي، حافظ وهذا اسمه تعديل، والقدح اسمه جرح.
علماء الحديث قالوا: لا يشترط ذكر أسباب العدالة؛ لاتساع الأمر؛ فليس عليك -إذا قلت: إن تذكر فلاناً عدل- أن تقول: زاهد، ورع، تقي، يأكل الحلال، يترفع عن الشبهات، لا يضرب أباه، لا يضرب أمه، لا يضرب إخوته، لا يؤذي جاره فالموضوع طويل عريض، سنظل نقول: يعمل، لا يعمل لن ننتهي في يوم، ولهذا لا يشترط ذكر أسباب العدالة لأنها طويلة جداً، لكن لا يجرح المرء إلا بسبب.
جرحته؛ قل لي لماذا؛ لأن أسباب الجرح محصورة، يمكن أن يأتي عليها العد.
فسنعتبر الحلال مثل باب العدالة، ونعتبر الحرام مثل باب الجرح.
فمعنى أن الأبواب في السور دلنا على أنها قليلة وظاهرة، وأنت تعلم أنه حين يكون الحرام في السور، فمعنى ذلك أنه قريب المنال انظر إلى الفتنة! نحن قلنا: إننا سنفترض المسجد هذا هو الإسلام، وهذا السور الأول وهذا السور الثاني، ربما تمشي هنا بجنب السور في نفس الوقت لكنك في الصراط المستقيم، فهذا هو الصراط المستقيم، تمشي هنا أو تمشي هنا أو هنا أو هنا كله صراط.
سنفترض وأنت على الصراط المستقيم أنك بجانب السور، فأنت إذن قريب ويمكن أن تقع؛ ولهذا قال: والداعي الذي فوق: الوازع، فأنت قريب من الباب، فيقوم يشدك من قفاك هكذا، ويسحبك إلى فوق: لا تدخل.
هل عرفت لماذا هو فوق؟ لأن الذي يمشي في الصراط يمكن أن يكون قريباً من الباب وأن يدخله.