ومن أجل هذا نحن نوصي الآباء دائماً: أن يهتموا بأولادهم من وقت وضع النطفة؛ فمن كان يريد ولداً صالحاً فليسم على نطفته.
تربية الولد لا تبدأ بعد أن يطر شاربه ويصير ثخيناً يفتله ويبرمه بل تبتدئ التربية من وقت وضع النطفة، وكلما ضربت الجذور إلى أسفل كانت الصلابة أقوى.
مثلما يقول العلماء: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.
النقش على الحجر لا يذهب ولا يزول؛ بسبب أن الابتداء مبكر.
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلينُ إذا قومته الخشب الغصن الصغير هذا إذا أردت أن تعدله يعتدل، وأنت ترى الشجرة التي أنت زرعتها أمام بيتك، وهي لا تزال عوداً، وإذا طلعت مائلة، تقوم أنت فتشدها وتربطها بحبل لكي تطلع مستقيمة، لكن دعها إلى أن تثخن وتغلظ، ثم ائت بجرار زراعي وجنزير وشدها، وسيقال لك: هل أنت تريد أن تخلعها أو ماذا؟ تقول: أنا أريد فقط أن أعدلها؛ فيضحكون عليك لماذا يضحكون؟ لأنه لا يمكن أن تعتدل الشجرة أبداً! تركها حتى صارت ثخينة جداً ويريد أن يعدلها؟! لا يمكن ذلك: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب إذاً: إذا أردت أن تكون الصفة أثبت، فلابد أن تبتدئ من الصغر.
وأذكر مرة أن بعض علماء العربية سئل عن مسألة دقيقة جداً في العربية -والسائل أيضاً من العلماء- فظن السائل أن الشيخ سيقول له كلمة واحدة فحسب، وإذا بهذا العالم ينفتح، ما انتهى من الكلام، وقعد يجول يميناً وشمالاً، والسائل منبهر.
أنت تعلم أن الكافيجي أحد مشايخ السيوطي، يقول عنه السيوطي: ما دخلت عليه مرة إلا استفدت منه سمي الكافيجي لأنه كان يحفظ كافية ابن الحاجب، فمرة دخل السيوطي عليه فقال له: أعرب: زيدٌ قائم.
فـ السيوطي قال: يا أستاذ أنت رجعتنا إلى أيام الكتاتيب (زيد قائم)؟! هذه أي طفل صغير يعربها، قال له: فيها مائة وسبعة عشر وجهاً! فقال: لا أقوم حتى تمليها عليّ.
فهذا العالم -مثل الكافيجي - انفتح ولم ينته من الكلام، فتعجب منه السائل وقال له: قل لي كيف حصلت هذا العلم! هكذا العلماء لطاف ظراف خفاف، إجابتهم حلوة تحتاج إلى إنسان ذكي، إنما الغبي هو الذي لا يفهم شيئاً أبداً.
أنت حصلت هذا العلم من أين؟ قل لي كيف ومن أين أتيت به بالضبط.
فقال له: تعلقت ليلى وهي بعد صغيرةٌ ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم هل فهمتم؟ إذالم تفهموا فهذه مشكلة كبيرة! فإن إجابته من أعذب الإجابات.
(تعلقتُ ليلى): أي أحببتها، وأخذت علقة قلبي أنت تعلم حين يكون الواحد جائعاً جداً جداً، يقول: أنا عليقة قلبي ستسقط فهذه العليقة هي التي تحمل القلب في الصدر.
(تعلقت ليلى وهي بعد صغيرةٌ): أحببتها وهي صغيرة جداً.
(ولم يبد للأتراب من ثديها حجم): يريد أنه لم يكن لها ثدي.
(صغيرين): تعلقتها ونحن صغيران.
(نرعى البهم): البهم: صغار الماعز والضأن والوحوش والبهائم.
وفي حديث أنس يقول: (كنا نأوي -أي: نشفق- على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد باعد ما بين منكبيه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر من تحته لمرت).
إياك أن تقول: البهمة هي هنا الجاموسة الكبيرة!! فإن (البهمة) هنا هي صغار الوحوش وصغار الحيوانات، كعنزة صغيرة لو أرادت أن تمشي من تحت يده لمرت.
(صغيرين): أي كنا نأخذ راحتنا، لكن أنا أول ما بلغت وهي بلغت حجبوها عني، إذاً يا ليتنا نرجع صغيرين مرة أخرى هذا معنى البيتين.
ويقصد العالم -حين تمثل بهما- أنه درس العربية وهو صغيرٌ جداً، ولهذا انطلق في الجواب عن هذه الجزئية الصغيرة، وتعلق بالعربية مثلما تعلق هذا الرجل بـ ليلى لما كانت صغيرة.
إذاً دائماً الإنسان حين يتعلم وهو صغير يصل إلى دقائق العلم.
وأنت حين تكون غواصاً شابّاً؛ تستطيع أن تصل بقوتك وفتوتك إلى قاع البحر؛ لكن حين يريد شخص آخر -وهو عجوز- أن يصل إلى قاع البحر، فسيغرق، وسيقول: أنقذوني! لا حول له ولا قوة ولا طول! إذاً: نفهم من هذا أن التعلم -سواء كان تعلم الإيمان أو تعلم العلم- إنما ينبغي أن يكون في مرحلة البداية من حياة الإنسان.
إذاً: الاستقامة على الطريق تستلزم إيماناً وعلماً، فابنك حين يفتح عينيه على الصراط المستقيم -الذي هو الإسلام- ويفهم معنى كلمة (إسلام)؛ فسيصل.