ما هي المتعة؟ المتعة سلطان أو مال، {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207] هذه علاقات الأقران في ذلك الزمان الغابر، فعندما تقرأ سير هؤلاء ترتقي بمستواك، فلو كان بينك وبين أخيك خصومة فبادر بحلها، لأن رائدك وأسوتك ميمون بن مهران مثلاً أو الحسن البصري، والله عز وجل جعل التأسي والتسلي خلقاً في بني آدم، وهذا هو الذي يسهّل عليك طلب الأسوة، وهذا ظاهر من قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وأيضاً هو ظاهرٌ في قول الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] ونحن في أمثالنا نقول: (من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته).
وقد ترجمت الخنساء هذا في قولها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فلو كان في كل بيت حزن وعويل فإنك لا تحزن كثيراً على ميتك! بخلاف ما لو كنت أنت الوحيد المصاب، فعندما ترى المصيبة عند الكل تخف عليك المصيبة، هذا هو معنى: (خلق التسلي والتأسي).
فربنا تبارك وتعالى في هذه الآية يخبرنا أن الأمر في الآخرة بخلاف الدنيا، ولكن إياك أن تقول: إذا دخلت النار فسنكون كلنا مع بعض وسوف نتحدث ونخوض في الكلام، لا: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، يعني: اشتراككم في العذاب لا ينفعكم، ولا يخفف عليكم المصيبة، فكل واحد سيُحاسب بمفرده، وكل إنسان يشعر بعذابه وحده.
فخلق التسلي والتأسي موجود في الدنيا، والإنسان مستعد فطرياً وخلقةً له، وهذا أيضاً ظاهر في قول عائشة في حديث الإفك لمَّا قالت بعدما بلغها الكلام: (فظللت ثلاثة أيام بلياليهن أبكي حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فدخلت تبكي معي) فعندما تبكي معها يخف عليها الأمر، فالمريض يعذب عندما يمرض ولا يعوده أحد، لكن لو كان هناك مريض مصاب بأشد الأمراض وكان هناك من يدخل ويخرج عليه باستمرار فيمر عليه اليوم بسرعة ولا يشعر بالألم.
ولذلك الليل أكثر ألماً من النهار بالنسبة للمريض، بالرغم من أن الألم واحد، لكنه في النهار مشغول، ويجد من يدخل ويتحدث معه.
عندما تقرأ في سير الماضين والعلماء تهذب خلقك، فمثلاً: ما المانع من فضح نفسك على الملأ، ولا يعني هذا أن تذكر ذنوبك وتجاهر بها، لكن اذكر أنك رجل خطاء، كما كان يقول محمد بن واسع رحمه الله وهو أحد رياحين التابعين، وأحد الرواة عن أنس، كان يقول: (لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني) كان من العباد.
وكذلك الأعمش عندما روى حديث ابن مسعود: (أن رجلاً بات فلم يصلِّ حتى أصبح، فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وبعد أن روى الأعمش الحديث قال: (أتعرفون لماذا عمشت؟ من كثرة بول الشيطان عليَّ) وعيسى بن يونس راوي الحديث عن الأعمش يعلق على كلام الأعمش فيقول: (وكان الأعمش صاحب ليل وتهجد).
وهذا نوع من كسر حظ النفس، أن يغمط الإنسان حظ نفسه إجمالاً.
عبد الله بن وهب الإمام المصري العلم الكبير كان يقول كما ذكر الذهبي في ترجمته في السير: (نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فأجهدني الصوم، فنذرت أني كلما اغتبت إنساناً أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة)، فلا ضير أن يعترف على نفسه هذا الاعتراف، وهذا نوع من تهذيب النفس وغمطها، ولا تزال تنبل إذا تأسيت بهؤلاء، وفعل التابعين ليس بحجة، وإنما ذلك في قول أو فعل الصحابي، ومع ذلك المسألة أبعد من هذا التقعيد الأصولي: حجة أو ليس بحجة، فنحن في باب الأدب نختلف عنه في باب العلم.
والإمام أحمد رحمه الله أصابته علة، فدخل أحد أصحابه عليه فوجده يئن ويقول: آه آه! فقال صاحبه: حدثني فلان عن فلان أن مجاهداً كان يكره الأنين، فكف الإمام عن الأنين، هذا هو باب الأدب، فلا يأتي شخص أقول له: لا تئن، فيقول: وما الدليل؟ فأقول له: ما روي عن مجاهد فيقول: ليس هذا بحجة!! فباب الأدب مختلف عن التقعيد العلمي، فـ مجاهد حجة عند الإمام أحمد في الأدب، بل هو شيخه، لأنك كلما علوت زاد النُبل والفضل، فكان شيوخه حجة عنده في الأدب، فقد يخالفه في الفتوى ولكن لا يخالفه في الأدب، بل ظل الإمام أحمد يدعو للشافعي أربعين سنة في صلاته، فسمع ابنه عبد الله أباه يدعو للشافعي ويذكره كثيراً، فقال: يا أبت! سمعتك تدعو كثيراً للشافعي، فمن هو الشافعي؟ رغم أنه يعرف الشافعي، ولكنه يسأل عن الخفي في سيرة هذا الرجل التي جعلت الإمام أحمد يُكبِره كل هذا الإكبار، فقال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، والعافية للناس، فهل بعدهما للناس من عِوض؟!) هذه هي نظرته لشيخه.
فباب الأدب مختلف عن باب العلم، فقد أخالف شيخي في العلم، كأن يقع في وهم وأسدده، لكن في الأدب هو شيخي وأنا تحته، من الممكن في العلم أن أكون فوقه، لكن في الأدب لا، فهو شيخك وتعلمت الفضائل منه، فعليك أن تحفظ هذا الجميل ما حييت، هذا هو النبل، فالتلاميذ النجباء رزق، وإذا أحب الله شيخاً سخر له تلاميذ نجباء، وإلا هل مالك أفضل من الليث بن سعد في الفقه؟ وأنا لا أقول شهادة من عندي لأن المسألة أخطر من أن يدخل الإنسان بين هذين الكبشين النطاحين الكبيرين، وإنما أقول شهادة الإمام الشافعي، قال: (الليث أفقه من مالك) لكن أصحابه لم يقوموا بمذهبه.
إذاً: رزق الله مالكاً بأصحاب ولم يرزق الليث، فالذين نشروا اسم مالك في الآفاق وصيروه في مشارق الأرض ومغاربها هم أصحابه، كذلك أصحاب أحمد والشافعي وأبو حنيفة.
فالمسألة ليست مسألة علم فقط، وإلا فعندنا من الأئمة من كان لهم مذاهب فقهية وكانوا يجرون في مضمار هؤلاء الأربعة المشاهير، كان بعضهم أجل من بعض الأئمة الأربعة، مثل سفيان الثوري، كان إماماً جليلاً ضخماً، وإسحاق بن راهويه وهو من أقران أحمد، والأوزاعي وهو من أقران مالك، وكان يقول مالك: (ما زال أهل الشام بخير ما بقي فيهم الأوزاعي)، ولما قابل سفيان الثوري الأوزاعي في السوق أخذ سفيان الثوري بلجام بغلة الأوزاعي وهو يفل الأوزاعي من الزحام ويقول: أوسعوا لبغلة الشيخ، فهل يفعل ذلك أحد من الأقران؟ وكان سفيان الثوري أكبر سناً من الأوزاعي.
فعندما تقرأ سير هؤلاء وتعيش معهم فتجدهم على منوال القرن الأول، ورجال القرن الأول هم الأساس، ثم في كل قرن تنتقي منه من كان على نفس نهج القرن الأول، وما بدأ المسلمون يتفرقون إلا بعد ظهور البدع في أواخر عهد الصحابة، مثل بدعة القدر، أو قبل ذلك بدعة الخوارج، وكبدعة الشيعة، فكلما ظهرت البدع كلما أخذت تفرق جمع المسلمين، ويصبح العدد الذي كان تبعاً لمنهج واحد تبعاً لعدة مناهج.