إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين؛ إنك حميد مجيد.
العقبات الموهومة التي يظنها بعض الناس عائقة لهم عن بلوغ منزلة الإخلاص هي أعظم بكثير -لمحل الاشتباه- من العقبات الحقيقية، وأقول: هي أعظم بكثير لمحل الاشتباه، فمن العقبات الموهومة: النعيم الأخروي والجزاء.
يظن بعض الناس أن من عمل ليدخل الجنة، فإنه لم يخلص في عمله، وهذا متواتر معروف عند علماء السلوك من الصوفية، أنك إذا قصدت بعملك أن تدخل الجنة، فإن هذا قادح عندهم في الإخلاص، حتى ينسب إلى رابعة العدوية المقالة الشهيرة، قالت: (مثل العابد للجنة أو النار كمثل أجير السوء).
أي: لا يعمل لله، إنما يعمل للجنة أو يعمل للنار، وينسب إليها أنها كانت تقول: (إن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فاحرقني بنارك، وإن كنت عبدتك طمعاً في وجهك؛ فلا تحرمني من وجهك) وأنشدت شعراً تذكر فيه هذا المعنى: كلهم يعبدون من خوف نار ويظنون النجاة حظاً جزيلا أو بأن يدخلوا الجنان فيحظوا بنعيم ويشربوا سلسبيلا ليس لي في الجنان والنار حظ أنا لا أبتغي بحبي بديلا ويلتبس هذا المعنى على بعض طلاب الإخلاص.
كيف يكون طلب الجنة والاستعاذة من النار من عبادة أجراء السوء، وها هم الأنبياء يدعون ربهم تبارك وتعالى أن يدخلهم في جنته، وسيدهم صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس طلباً للجنة واستعاذة من النار؟! في سنن أبي داود أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما إني في صلاتي أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ) تتكلمون كلاماً كثيراً، وتسألون الله أشياء كثيرة، وأنا لا أحسن هذه الدندنة، أنا لا أقول غير شيء واحد: اللهم ارزقني الجنة وأعوذ بك من النار، أما دندنتك: الكلام الكثير الذي تقوله أنت ومعاذ فأنا لا أحسنه، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال عليه والصلاة والسلام: (حولها ندندن) لا نسأل الله إلا الجنة، ولا نعوذ به إلا من النار، مهما تنوعت العبارات وطالت وقصرت، لكن حول هذا المعنى ندندن.
أما الصوفية فإنهم يظنون أن هذا قادح في الإخلاص! وقد فهموا الجنة فهماً خاطئاً، إنهم يظنون الجنة رماناً وفاكهة ومتعة، ونسوا أعظم ما فيها، وهو رؤية الله تبارك وتعالى.
رابعة تقول: (أنا لا أبتغي بحبي بديلاً)، وهي لن ترى الله عز وجل إلا إذا دخلت الجنة، وأعلى ما في نعيم الجنة أن يُرى الله تبارك وتعالى؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى منادٍ: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ قالوا: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد جنبتنا السعير، وثقلت موازيننا؟! قال: فيكشف لهم الحجاب، فيرون الله عز وجل، فما أعطوا شيئاً خيراً لهم من رؤية الله تبارك وتعالى).
ولما تلا الإمام الشافعي رحمه الله قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال: (لو لم يكن من عقوبة إلا الحجاب لكان كافياً، فلما حجب أقواماً بالمعصية عرفنا أن أقواماً يرونه بالطاعة) فاستدل بالآية على رؤية الله تبارك وتعالى؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافاً للجهمية والمعتزلة الذين ينكرون هذه النعمة العظيمة.
فطلب هذا النعيم الأخروي يظنه الصوفية معارضاً للإخلاص، وغفلوا وهم علماء السلوك عن طبيعة الإنسان.
إن الإنسان لا يعمل إلا إذا أجر، لو نصبت له أجراً عمل، لو قلت له: اعمل ولا أجر لك؛ فترت همته؛ لذلك نصب الله الجنة والنار في باب الترغيب والترهيب، وأنتم ترون أن الدول التي تتعامل بالقطاع العام فاشلة؟ لأن الموظف يأخذ راتبه عمل أو لم يعمل، إنما القطاع الخاص قطاع ناجح؛ لأنه ربط الإنتاج بالأجر، يقول لك مثلاً: قطعة بدرهم، إذاً: أنت عملت قطعة في خمس دقائق، ستقول لنفسك: لم أقعدُ فارغاً، لم لا أعمل؟ وكل قطعة بدرهم؟! أما إذا قيل لك: سواء عملت قطعة واحدة أو عملت ألف قطعة، فليس لك إلا عشرة دراهم في الشهر، فإن المنة تضعف، وهذا شيء لا يمتري عليه اثنان.
فكيف يزيل هؤلاء الصوفية مسائل الترغيب ومسائل الترهيب وبعد ذلك يقولون: اطلب وجه الله؟! إن الله عز وجل خلق الإنسان يرغب ويرهب بفطرته وهم يضادون فطرة الله وخلقه، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رجل في غزوة أحد -وكان يأكل التمرات- فقال: (يا رسول الله! ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة) فالرجل يأكل التمرات ثم تذكر الجنة ونعيم الجنة، وهذا الكدر والنكد الذي يعيش فيه الإنسان مهما كان ملكاً مطاعاً متوجاً، فالدنيا كلها نكد، إنما الجنة دار النقاء الخالص، فسقفها عرش الرحمن، وحصباؤها اللؤلؤ، وطينتها المسك، وما من شجرة إلا ساقها من ذهب، وكذلك النساء، والرسول عليه والصلاة والسلام يقول: (لو خرج ظفر امرأة من الحور العين للدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب! وإن الرجل ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة)، تلبس سبعين حلة، لكن ساقها مثل الزجاجة، فلذلك يرى مخ ساقها من وراء تلك الحلل، من الحسن والجمال، وقد ذكر الله عز وجل لنساء أهل الجنة صفتين، قال: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] (مقصورة)، والمرأة المنتقبة في زماننا متشبهة بنساء أهل الجنة لماذا؟ لأنها لما غطت نفسها قصرت حسنها على زوجها، فلا يراها إلا زوجها، حور مقصورات في الخيام، لا يخرجن من الخيام، ولو أنهن خرجن فإنهن كما وصفهن ربهن: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، تقصر طرفها على زوجها، لا تمد عينيها إلا إلى زوجها فقط.
إذاً: المرأة المتعففة تتشبه بنساء أهل الجنة.
وأنتم تعلمون أن التشبه بالمغضوب عليهم ممنوع، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أهل النار لم أُرهما قط نساء كاسيات عاريات -لابسة ملابس شفافة، فهي كاسية لكنها عارية في الحقيقة- رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) فحين تصفف شعرها تصففه فوق رأسها وتميله إلى ناحية اليمين أو الشمال، فالعلماء قالوا: إن تصفيف الشعر بهذه الصورة وإن لم يكن ممنوعاً لذاته، لكن لأن فيه تشبهاً بالمغضوبات عليهن، فإن المرأة المسلمة لا تفعله، فالتشبه بالمغضوب عليهم أو بالكافرين ممنوع على أي وجه، والتشبه بأهل الصلاح مطلوب فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح فانظر نساء أهل الجنة متعة، كلها الجنة متعة.
وروى الإمام البزار رحمه الله حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً) هذا الحديث تكلم فيه بعض العلماء، لكن أنا خطر لي عليه قصة لطيفة جداً، رواها أبو علي الأبار في معجم أصحاب الصفدي، يقول: بينما نحن نسمع هذا الحديث من شيخ من الشيوخ، ورجل كان أتى بابنه كان سنه حوالي أربع سنوات أو خمس، قال: ما أشك أنه دون السادسة، فهو قاعد مع والده في الجلسة، والشيخ ظل يقول: حدثني فلان عن فلان عن فلان ووصل بالتالي للبزار، وذكر سند البزار وللحديث، ثم ذكر متن الحديث: (إن من أهل الجنة من يشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديه مشوياً) فالولد الصغير قال: على قرصه، قال: فضحكنا جميعاً، وتعجبنا من فطنة الولد؛ إذ أنه علم مع صغر سنه أن الإدام يحتاج إلى خبز.
وفي الجنة لا يحوجك ربك إلى
Q أنا أريد أن آكل رماناً، أريد أن آكل تفاحاً بل بمجرد ما تشتهي شيئاً تراه أمامك، فالسؤال علامة الذل، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إليه بعض الصحابة قالوا: أوصنا، قال: (لا تسألوا الناس شيئاً)، فكان سوط أحدهم يقع منه -يسقط من يده- وهو راكب فرسه، فلا يقول: يا فلان ناولني، بل ينزل هو بنفسه ويأخذه، لأن السؤال ذل، يدل على حاجة، فلا أحد يسأل إلا وهو محتاج؛ شخص تاه عن العنوان يسأل عن العنوان شخص يريد شيئاً يحتاجه يسأل عنه.
فحتى لا يحوجك في دار الخلود والنعيم المقيم، وحتى يزول عنك الذل الذي كان في الدنيا وانتهت الحاجة إلى الخلق، كان من تمام المتعة أنك ما اشتهيت شيئاً إلا وجدته أمامك، فهل يوجد عاقل يضحي بالجنة لشهوة ساعة؟!! إنه لمغبون من ترك الجنة وما فيها لشهوة ساعة! في الدنيا: رغيف الخبز حتى تأكله لا بد أن يمر بمراحل عدة: تحرث الأرض، تحط البذر، تروي، تنزع كل الأعشاب الضارة بالزرع، تظل تتعاهده، يكبر، تحصده، تجمعه وتحمله للأجران، تدرسه، تفصل التبن عن الحب، ومن ثم تأخذه بعد هذا فتطحنه لتجعله دقيقاً، ثم تعجنه، ثم تخبزه، ثم تأكله هذا رغيف خبز، ولكنه مر بكل هذه المراحل! مصداقاً لقول الله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فكيف تقبل فيها الحرام وهي ساعة؟! {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
فالرسول عليه الصلاة والسلام حين سأله هذا الصحابي: (ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة.
فرمى تمرات كن معه ثم قال: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات)، هل سأنتظر في الدنيا دقيقتين، أو خمس دقائق لأ