إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أشرنا إشارة عابرة إلى أن الغربة تنقسم إلى قسمين، وهي: غربة خاصة، وغربة عامة.
فأما بالنسبة للغربة الخاصة فهي: أن يكون الرجل غريباً في خاصة أهله أو غريباً في قومه، ذلك أن الجماهير العريضة إذا ابتعدت عن قبس الضياء أوغلت في الظلام، وهذا أمر حسي مشاهد، ننقله إلى الأمر المعنوي الآخر لو أن هناك مصباحاً، وله ضوء قوي، وكلما اقتربت من المصباح كلما شعرت ببهاء ضوئه ولمعانه، وكلما ابتعدت عن هذا المصباح شعرت أن الضوء يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى تدخل في ظلام حالك لا يخالطه نور، هذا هو المثل الحسي الذي نشعر به جميعاً ونراه.
الأمر المعنوي الذي يضرب له هذا المثل هو الهدى والضلال، فبقدر قربك من مصدر الضوء صلى الله عليه وآله وسلم بما أتانا من قرآن وسنة؛ بقدر ما يكون إحساسك بنور الإسلام وبهائه ولامع نوره، وبقدر بعدك عنه وانسلاخك منه؛ بقدر إيغالك في الظلام.
لا تظن أن ذلك الظلام الدامس الذي يشكو منه الغرباء في المرحلة الثانية يدوم، لن يدوم إن شاء الله مع مراجعة الضوء الأول.
إن ظلام الليل كلما اشتد آذن بمولد الفجر، ولذلك ترى أحلك فترات الليل سواداً وظلاماً هي التي تسبق نور الفجر، فإذا راجعت الضياء تخلصت من هذه الظلمات التي يعبر الله تبارك وتعالى عنها بلفظ الجمع في القرآن الكريم، ويعبر عن لفظ النور بالإفراد {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] لأن مصدر النور واحد، بخلاف مصادر الظلمات، فإنها متعددة: ظلمة الريبة، وظلمة الشك، وظلمة الكفر، وظلمة الأهواء، إلى آخر هذه الظلمات، فهي ظلمات تأتيك من أشياء متعددة.
وقد ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد وصححه الحاكم في المستدرك (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خط خطاً طويلاً على الأرض، وخط خطوطاً صغيرة عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا طريق الله -طريق واحد فقط- وهذه طرق الشياطين-ظلمات متعددة- على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فأنت تعترضك مصادر كثيرة من الظلمات، إن فاتك مصدر نهشك الآخر، وإن فاتك الثاني أدركك الثالث، ولا عصمة لك من هذه المصادر إلا بأن تعتصم بالأمر الأول.
نحن نرى الآباء الآن لا يملكون التأثير على أولادهم جاءني سائل يقول: ابنتي لا تريد أن ترتدي الحجاب، وأنا لا أريد أن أضغط عليها، أريدها أن تلبس الحجاب عن اقتناع تقتنع بماذا أيها المسكين؟ تقتنع بفرض الله عليها، وليس لها خيار في أن تقبل أو أن ترد، إن كانت من الذين آمنوا، ومن الذين أسلموا لله؛ ليس لها خيار، وليس لك خيار {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فهو لا يريد إجبارها حتى تقتنع هب أنها لم تقتنع؟ أين يذهب حكم الله؟ إذا هي لم تقتنع بحكم الله تقتنع بمن؟ لقد خلعت نفسها من دينها بهذا القول وهي لا تدري.
ويقول آخر: أنا لا أريد أن ألزم ابني كي يصلي؛ لأني لو ألزمته عليه حتى يصلي فسيصلي أمامي ولن يصلي من ورائي، ولو كانت المسألة بالإقناع فإنه لن يتركها.
بمثل هذا القول عرَّضنا حقائق الدين الثابتة للضياع؛ لأننا أخضعناها للمناقشات.
الغرباء الأولون كانوا يعتصمون بتنفيذ أمر الله لتجاوز مرحلة الغربة؛ لذلك مكن الله لهم.
نسأل الله ألا يمكن للعصاة في بلادنا؛ لأنهم عباد شهواتهم، تصور لو أن رجلاً يصلي هل يمكن أن يصدر أمراً باعتقال المصلين في صلاة الفجر؟! وهل يمكن أن يصدر أمراً بإلقاء القنابل المسيلة للدموع في المساجد؟! لو أنه يعظم حرمات الله ويعظم شعائر الله لا، نعوذ بالله أن يتمكن أولئك، إننا نريد أن يتمكن المؤمنون، لذلك هؤلاء لن يمكنوا حتى يراجعوا الأمر الأول؛ ليكونوا بذلك خليقين بالخلافة، {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] رأوا أن من استحقاقهم -وهم الملائكة- {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فرأوا أن استحقاق الخلافة تكون للمسبح والمقدس، وطالما ضاع التسبيح والتقديس لا تكون الخلافة.
لذلك يجب على المسلمين أن يراجعوا الأمر الأول، ولا يكن بأسهم بينهم على هذا النحو الذي نراه، إننا نرى جماعة يحاربون بعضهم في الخلاف الفرعي، ويمقتون بعضهم في الخلاف الفرعي أشد ما يمقتون اليهود والنصارى، والله العظيم! إن بعض المسلمين بسبب الخلاف في بعض المسائل الفرعية يكره أن يلقى أخاه، وإذا قابل النصراني قال له: صباح الخير، وبش في وجهه، وإذا رأى أخاه الذي اختلف معه في مسألة فرعية أخذ طريقاً آخر! وما ذاك إلا لضعف الولاء للإسلام والمسلمين؛ كل هذا فرع عن الإيغال في الظلمات؛ والبعد عن الأمر الأول.
ترى مفتياً من المفتين يستحسن البدع لما يرى في مقابلها من الكفر الصريح، لو سئل عن رجل يذكر الله -مثلاً- أو يعبده بطريقة مبتدعة، يقول لك: أليس هذا أفضل ممن يسهر في شارع الهرم؟ صاروا يقارنون أهل البدعة بأهل الكفر؛ فرأوا أن أهل البدعة على خير عظيم، وصارت الجماهير تمشي في ركاب أهل البدعة، وضاع أهل السنة.
ولا ننكر أن بعض الداعين إلى السنة جاهل بأساليب الدعوة وطرقها، فانظر -يرحمك الله- إلى البلاء يتكاثر حتى من الغرباء أنفسهم! بعض الداعين إلى السنة جاهل بأساليب الدعوة، لا يراعي حال المخاطب، نرى -مثلاً- رجلاً يسيد النبي صلى الله عليه وسلم -وهو سيدنا، وسيد ولد آدم- في الأذان، وفي الإقامة والتشهد، (أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله) فإذا قيل له: لا يجوز لك أن تسيده في هذه المواضع.
قال: يكرهون النبي يكرهون النبي؟! وما سبب غربتنا إلا محبته، هذا هو بيت القصيد، لو أراد الغرباء الدنيا لحازوها أكثر من طلابها، لكن سبب غربتهم محبته؛ والدعاء إلى سنته.
وهل يبغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كافر؟ واستدل بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن الحديث المشهور بين الناس (من حج ولم يزرني فقد جفاني) كذب وموضوع، وبهت وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيارة ليست من مناسك الحج، ولو حج رجل ولم يزر النبي صلى الله عليه وسلم لعارض سفر أو مرض أو نحوه صح حجه بالاتفاق، قال: لأن الزيارة ليست فرضاً ولا ركناً ولا شرطاً في الحج، وجفوته صلى الله عليه وآله وسلم كفر فكيف يكفر من لا يفعل شيئاً مفروضاً عليه؟! فإذا قيل له: لا تقل سيدنا، قال: هؤلاء لا يحبون النبي؛ لأنهم وهابيون ونبزوهم بما يفتخر المرء به؛ لكن الأمر كما قال القائل الأول معاتباً معزياً لنفسه: إذا محاسني اللاتي أدل بها عدت عيوباً فقل لي كيف أعتذر إذا لمتني على التوحيد فقل لي كيف أعتذر؟ إذا اتهمتني أنني مستقيم كيف أعتذر؟! إن المنحرف إذا اتهم بانحرافه يعتذر بأنه سوف يراجع الطهارة ويراجع الصلاة، لكن إذا قيل للصالحين: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ماذا يفعل آل لوط؟ وكيف يعتذرون؟ إذا محاسني اللاتي أدل بها عدت عيوباً فقل لي كيف أعتذر فالرجل الصالح عندما ينبز بأنه متبع لأمر النبي عليه الصلاة والسلام فعليه أن يفخر بذلك ولا يبحث له عن أعذار يعتذر بها؛ لأنه في نهاية الأمر على الحق، وخصومه على الباطل، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.