ففي الحديث الذي بدأتُ به في خطبة ماضية، حديث الرجل الذي أمر بحرقه بعد موته وذره في الريح، هذا أصل من الأصول التي يعتمد عليها أهل السنة في الرد على الخوارج.
فالجماعة الذين يحاربون التطرف هذا حديث يرد على أهل التطرف بحق، وهم الذين يكفِّرون جماهير المسلمين ولا يعذرونهم كمثل الرجل الذي يطوف بقبر فهؤلاء يكفرونه، أما نحن فلا نكفره عيناً، الخوارج وجماعة الهجرة والتكفير والتوقف يكفرونه عيناً، ونحن لا نكفره حتى نقيم عليه الحجة الرسالية التي يكفر بها، وذلك بتوفر الشروط وانتفاء الموانع، وهذا هو الاعتدال، مع اعتقادنا أن ما أتى به جُرْم من أعظم الجرائم، نحن لا نهون من جرمه؛ ولكن لا نكفره بعينه، وإن كان جرمه عظيماً، وعظَمة جرمه تتضح من حديث أبي واقد الليثي -الذي رواه الترمذي وصححه- قال: (كنا حديث عهد بإسلام وخرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمررنا على شجرة للمشركين وقد علقوا عليها أسيافهم، وكانوا يسمونها: ذات أنواط، فقال بعض المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]).
ألا ترون الفرق بين قول الصحابة حديثي العهد بالإسلام، وبين قول أصحاب موسى له؟ الفرق واضح، أصحاب موسى قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وهؤلاء قالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) اجعل لنا شجرة، وليس من اتخاذ الشجرة قصد للعبادة، فمن الممكن أن يتخذوا الشجرة ليعلقوا عليها أسيافهم؛ لكن أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم مجرد المشابهة بكلام الكافرين، فالتشبه بالمشركين في الكلام مرفوض فكيف بفعلهم؟! فأنا أسوق هذا الكلام للجماعة الذين يعملون الأناشيد الإسلامية، ويأخذون بعض نغمات أهل الفجور في أغانيهم، فيَنْظِمُون أغاني يزعمون أنها إسلامية، مصحوبةً بدف على أوزان الأغاني الفاجرة، وشخص أخبرني أن ثمة شريطاً نازلاً: لُوْلا لُوْلا لُوْلا لُوْلاكِ لُوْلاكِ لُوْلا لُوْلا إسلامنا ولست أعرف من (لُوْلا) هذه؟! ولا ماذا يقصد بهذا الكلام؟! وقيل: إن ثمة أغنية فاجرة أيضاً على نفس الوزن، يقولون: نحن نستغل شهرة الأغنية والإيقاع، ونعمل أنشودة على وزنها؛ لأن الجماعة الذين تعودوا سماع النغمة المنحرفة هذه سيسمعون النغمة المعدلة، وأذنه لا تنكر الكلام.
فانظر إليهم كيف تشبهوا بأهل الفجور! وما الذي ينطبع في أذهان المستمعين وقد حفظوا الأغنية الفاجرة عندما يسمعون الكلمات الجديدة؟! هذا مَثَلُهم كَمَثَل ممثلٍ فاجر كان ليلة أمس في أحضان امرأة لا تحل له في الفراش، واليوم يمثل عمر بن عبد العزيز في مسلسل، البارحة كان رجلاً فاجراً، والآن لابسٌ العمامةَ، ومعه لحية، ويعظ الناس، وتراه يسكب الدمع من عينيه، اتقِ الله يا مفتري! بالأمس في أحضان امرأة لا تحل لك، واليوم تمثل شخصية عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة العادل الورع.
ما الذي يمكن أن يخطر ببالك عند مشاهدتك لهذا؟! أليس هذا طعناً على عمر بن عبد العزيز؟! أليس هذا نوعاً من الخلط في ذهن المستمع أو في ذهن المتفرج؟! وهكذا تبهت الشخصيات القوية الكبيرة! وعندما تبهت هذه الشخصيات بمثل هذا فما معنى هذا؟! الله عز وجل كرَّمنا كمسلمين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فنهانا في صلاتنا أن نتشبه بالكلاب، وبالثعالب، وبالديوك، نهى عن نقر الديك، وافتراش الكلب، واحتفاز الثعلب، ونهى عن بروكٍ كبروك البعير، كل هذا إكرام لك ألا تتشبه بحيوان على الإطلاق، فكيف تتشبه بالكافرين؟! مجرد موافقة الكافرين في أقوالهم ممنوعة.
تجد بعض الجماعة يقولون: ( Mersi)! (Sorry)! (Pardon)! لماذا يا جماعة؟! أَعَقِمَتْ لغتُنا العربية أن تجد فيها ألفاظاً لطيفة وجميلة؟! أَعَقِمَتْ ألفاظُنا العربية؟! إخوانُنا أصحابُ المحلات الذي يكتبون أسماءً أجنبية على محلاتهم، والله إنني أرى أن أشرفَ منهم الرجل (الدَّغْل) صاحب الفول والطعمية الذي في المنصورة والمحلة، انظر! رغم الاسم العَكِر إلا أنه أشرف؛ لأن (الدَّغْل) لفظ عربي.
فنحن نقول لإخواننا الذين عَقِمَت اللغة العربية عندهم أن يجدوا لفظاً عربياً مشرفاً: ارفعوا هذه الأسماء الأجنبية من على المحلات.
عدوُّك الذي يقاتلُك والذي يهلكُك ها أنت ترفع عنوانَه، ولغتَه على باب محلك، أولادُك لابسون للفنائل التي عليها العلم الأمريكي، يرفعون العلم الأمريكي على صدورهم، مُعْظَمُ ملابس الأطفال عليها كتابات باللغة الأجنبية، فينطبع في أذهان الأولاد تقديس وتعظيم هذه اللغة.
فمجرد المشابهة ممنوعة، فكيف بالفعل؟! وإن كان هناك فرق بين قول أصحاب موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهاً} [الأعراف:138] وقول الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط) إلا أنهم شابهوهم، فقد أنكر النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، وقال: (إنها السنن، قلتم كما قالوا) فنَزَّلهم بمنزلة أصحاب موسى، مع أن قصدهم خلاف ذلك.
هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: أن هذه المشابهة بالقول مدعاة إلى المشابهة بالفعل.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم أن يعظموا شجرةً، مع أنهم يعلمون أنها لا تضر ولا تنفع، فكيف بدعاء الناس للأولياء في المقابر، واعتقاد الناس أنهم يضرون وينفعون! ومع ذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يكفرهم، ولو كان في هذا تكفير لهم، لأمرهم بالاغتسال ونطق الشهادتين.
فهذا يدل على أن من نشأ ببادية أو ببلد ليس فيه علماء ينشرون الكتاب والسنة، فارتكب شيئاً من هذه المخالفات أنه يُعذَر، وليس معنى العذر بالجهل أنه يصير سليماً، لا.
بل سيؤاخذ عند الله بتقصيره في طلب العلم، ولكن لا يكفَّر، هذا معنى العذر، لكنه يؤاخذ؛ لأنه قد عرف كل شيء بتفاصيله، فكيف لم يعرف دينه؟! لكن معنى قول أهل السنة: أنه يُعذر بالجهل أي: لا يكفَّر، وليس معناه رفع المؤاخذة بالكلية.
وكذلك أيضاً من هذه الأصول: الحديث الشهير: أن معاذ بن جبل لما ذهب إلى الشام وجد الناس يسجدون للأساقفة، فقال: (لِمَ تسجدون لهم؟ قالوا: نسجد لهم تكريماً وتحيةً لهم، فقال: النبيُ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بأن أسجدَ له، فلما رجع خرَّ بين يديه ساجداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ؟! فقلت: يا رسول الله! رأيت الناس يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن أسجد لك، فقال: يا معاذ! إنه لا ينبغي أن يُسْجَدَ إلا لله، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، أي: لِعِظَمِ حقه عليها) ولو كان السجود لغير الله يكْفُر فاعلُه مجرداً لقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كفرتَ، اغتسل وانطق بالشهادتين، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل له ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم عَذَرَه.
وهذا كله داخلٌ تحت هذا الأصل العظيم.
فتصوَّر عندما يضيع هذا الأصل ويضيع هذا الأصل ويضيع هذا الأصل إذاً: ما الذي يبقى لنا مع هؤلاء المبتدعة، فضلاً عن الأعداء؟! فيا جماعة! لوذوا بعلمائكم، وارجعوا واعرفوا مَن هو العالِم الذي يُرْجَع إليه، فإن علماء الفتوى يقولون: إن العامي مقلد في كل شيء، إلا في اختيار من يقلده، فإنه مجتهد.
إذاً: العامي مجتهد في اختيار مَن يقلده، ومن يتبعه في دين الله عز وجل، فإذا كنت مجتهداً فكيف لا تعرف الفرق بين العالِم وبين شبيه العالِم؟! متى يبلغ البنيان يوماً تمامَه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ ولله در من قال متوجعاً: لو كان سهماً واحداً لاتقيتُهُ ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ