تدبرت قصة أهل الكهف، وأرسلت طرفي فيها مرةً ومرة، فوقفت على بعض المعاني: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [الكهف:13 - 14].
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمي سوى العالي من الشجر الحشيش في الأرض ما يضيره الرياح والبروق والرعود، ولا يتأثر إلا الشجر العالي الطويل القامة، كذلك المحن لا يهتز لها الذين أخلدوا إلى الأرض؛ إنما تصيب القمم وأصحاب الهمم، تأمل في الآيات: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:13 - 14]، (إذ قاموا) بعد (ربطنا)؛ لأنه لا يقوم ولا يصبر إلا إذا استقام قلبه؛ فلذلك تقدم ذكر الربط على القلب قبل القيام، والمصائب التي تأتي زرافات ووحداناً لا يتحملها إلا قلبٌ جسور، يستوي معه التبر والتراب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما بيتي والسجن إلا واحد) فعلام ما يأسى؟! هذا من أثر الربط على القلب، ومن الذي ربط؟ الله هو الذي ربط، والذي يربطه ويكرمه لا يحله أحد، فتبارك الذي ربط {لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] لا انفصام لهذا الربط.
{إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] والمدهش أن هؤلاء الفتية كانوا أولاد علية القوم! فسبحان الذي يخرج الحي من الميت، أولاد علية القوم، البيوت الراقية، تنحو وتركوا مظاهر الترف، وآوتهم الهمم إلى كهفٍ، لكن: قطرةٌ من فيض جودك تملأ الأرض ريا ونظرة بعين رضاك تجعل الكافر وليا {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، كهفٌ خشن لكن لا يحسون بذلك، تركوا الترف والدعة انحيازاً إلى جانب الله عز وجل.
وقصة أهل الكهف قصةٌ فريدة؛ لأن هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها مثل هؤلاء الفارين بدينهم دون الأنبياء، قصص القرآن تدور على الأنبياء؛ لأنهم الأسوة والقدوة والمثال، فضُرب المثل بأصحاب الكهف ليقال للناس: لكم فيهم أسوةٌ.
لزوم الكهف معناه: الاعتزال.
والعزلة في المجتمع الفاسد لا بد منها.
والعزلة قسمان: عزلةٌ بالبدن، وعزلةٌ بالقلب، فإذا استطعت أن تخرج من بلدك إذا استعلى فيها العصيان فاخرج، فإن السلف كانوا يفعلون ذلك: خرج بعض العلماء من بلدٍ يسب فيه عثمان رضي الله عنه، وقال: لا أقعد في بلدٍ يسب فيه عثمان ورحل، ونحن نعلم أن انتقال الإنسان من دار إلى دار كم يكلف! لكن إذا عجزت فلا أقل من اعتزال هؤلاء بقلبك، فلا تشاركهم في اهتماماتهم، ولا تعينهم على باطلهم، ولذ بإخوان الصدق.
واعلم أن العزلة لها ضوابط، حتى لا يئول الحال أن تعتزل الناس جميعاً فتأتي بأفكار هدامة مثلما حدث لبعض الجماعات المنحرفة: اعتزل ثم بمضي الزمان كفر الناس، وقال: هؤلاء ليسوا بمسلمين؛ لأنهم رضوا بالتحاكم إلى القوانين الجائرة، فأورثته العزلة تكفير المجتمع فهذه عزلة غير محمودة.
فعدم فهم العزلة الشرعية أحد الأسباب المفضية إلى ضعف عقيدة الولاء والبراء.
وإن الجهل بمراتب الأحكام الشرعية له أثر في وهن عقيدة الولاء والبراء، فهذا الجهل الذي نراه -قد أطبق على المسلمين- هو أحد الأسباب الرئيسية في ضعف عقيدة الولاء والبراء.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يُسب ويُشتم، ويرسم بالصورة المهينة التي تعلمونها جميعاً، ومع ذلك -كما قلت- لم تصدر أي جهة رسمية أو أي صحيفة استنكاراً على ذلك، ولما ماتت الزانية تكلم ثلاثة رؤساء، ونددوا بالمخابرات البريطانية والفرنسية، وقالوا: إن هذا اعتداء على الحرية الشخصية.
فهل الحرية الشخصية تعني الفجور؟! تكلم ثلاثة رؤساء، ونشر كلامهم في الجرائد الرسمية.
ولكن عندما يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحركون ساكناً.
فانظر إلى هذا التباين لتعلم إلى أي مدى ضعف الولاء والبراء عند المسلمين.
علو الهمة في الحيوان يجعل له قيمة، فالأسد قالوا: إنه ملك الغابة لماذا؟ لأن الأسد لا يأكل الجيف أبداً، ولا يأكل الطعام البارد على الإطلاق، بخلاف الكلاب، والذباب، فكلما ذبّ الكلب وطرد آب ورجع، وقد جاء في قول القائل: تركت وصالكم شرفاً وعزاً لخسة دائر الشركاء فيه ولا ترد الأسود حياض ماءٍ إذا كان الكلاب ولغن فيه وتأمل في كلب أهل الكهف، كلبٌ تبع الصالحين فنبل ذكره وعلا قدره، وذكر في كتاب الله المجيد! وهذا كلب تعلق بآدمي يموت، فكيف إذا تعلقت بالحي الذي لا يموت؟! كم يكون قدرك، وكم يكون نبلك! فلماذا نرضى بالدون وخساسة الهمم.
الولاء والبراء أن تتولى الله ورسوله، وتتبرأ من الكافرين والفاسقين والمنافقين.
ولابد أن تصبر على ما يصيبك؛ لأن أصحاب الولاء والبراء يدفعون الضريبة عاجلة، ولكن الله وعدهم فقال: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.