(ومستفتٍ) إذا أراد رجل أن يستفتي حتى لو كشف بعض ما يتأذى منه خصمه أو جاره أو زوجه، فإنه لا جناح عليه، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (جاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح -الشح: أشد البخل- فهل عليَّ أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ (ووقع في بعض الطرق: بغير علمه) فقال لها عليه الصلاة والسلام: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
فأذن لها أن تأخذ من مال زوجها الشحيح بغير إذنه، الشاهد من الحديث قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح)، ولو علم أبو سفيان: أنه وصف بالبخل في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام لتأذى من ذلك، لاسيما أن البخل يتأذى منه كل النبلاء، وأقول: النبلاء؛ لأن بعض الناس لؤماء، يرى أحدهم أن البخل حنكة وتدبير للمعاش، مع أن البخل من أدوأ الأدواء؛ كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام، لما قال: (يا بني سلمة من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس، لكننا نبخله -وفي رواية- لكنه بخيل، قال: وهل هناك داء أدوأ من البخل؟!) يعني أقبح ما يوصف به شريف القوم البخل، إنما سيدكم هو عمرو بن الجموح، وكان فقيراً ضعيفاً متضعفاً.
ولا شك أن أبا سفيان لو علم أنه نسب إليه الشح لانزعج، لكن المرأة ما قصدت أن تذهب وتفضح أبا سفيان، إنما ذهبت تستفتي -وهنا تنبيه: بعض النساء يجلسن مع بعض، وتقول: أنا لا أجد ما آكل، زوجي لا يطعمني، أو الولد يقول على أبيه كذا، أو الأب يقول كذا على ابنه، من باب الشكوى والتنفيس، ولكن أنت تقولين هذا الكلام لمن لا يستطيع رفع الظلم عنك، فإذا كانت شكواك لمجرد التنفيس، فهذه من الغيبة المحرمة، إلا إذا قلت هذا الكلام لمن تطلب منه المشورة التي هي قائمة مقام الفتوى أو مساوية للفتوى، فلان بخيل ولا يؤكلني، ماذا أفعل؟ إذا كانت المسألة هكذا، خرجت مخرج الفتوى، أما إذا كانت شكوى محضة، لا ينبني عليها فائدة، فهذا كله داخلٌ في باب الغيبة المحرمة.