قال هرقل: (فإن كان ما تقوله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين) وهذا دليل على أنه لا يمكّن في الأرض إلا لمن استأثر بقلوب من عليها، ولا يكون بقلة الأدب، ولا بالعنف.
وهنا نكتة في منتهى اللطف، وهي في قصة يوسف عليه السلام، وذلك عندما ألقوه في الجب، وبعدها أخرجوه، ثم ذهب إلى العزيز، وكان لا يزال صغيراً، والله سبحانه وتعالى بعدما ذكر أنهم استقبلوه وأحبوه قال: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:56] يوسف عليه السلام لم يمكن له في الأرض إلا بعدما خرج من السجن وصار وزيراً، فأين التمكين؟ طالما دخل قلب هذا الرجل، فهذا هو الملك الحقيقي، ابن آدم لا يمكن أن يتنازل بما يملك إلا إذا كسب أحد قلبه، فإذا ملكت قلوب الناس فهذا هو الملك الحقيقي، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:56].
لذلك نقول: يا من ترغب بالملك، املك قلوب الناس تضمن الملك الذي تحت أرجلهم، ولذلك هرقل جزم وقال: (إن كان حقاً ما تقول فسيملك موضع قدمي هاتين)، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام قال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63].
الآن بعض الجماعات الإسلامية منذ خمسين سنة تحاول أن تقيم -لا أقول دولة حرة- بل حياً في بلد، ومع ذلك لم يستطيعوا، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام خلال عشر سنين أقام دولة كانت تخاف منها معسكرات فارس والروم، بماذا أقامها؟ أقامها بتأليف القلوب.
ومن الأمثلة على ذلك: لما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، جاء سعد وقال: اختر أجمل نسائي فأطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها، وخذ شطر مالي، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق.
ما الذي حدث للعرب؟!! كان العرب إذا نظر أحد إلى امرأته قام فقتلها، بينما سعد بن الربيع يقول الآن: أتنازل لك عن أجمل نسائي؟! ما الذي حدث؟! الله عز وجل غيَّر قلوب هؤلاء، وكل فساد على الأرض بسبب تحول القلوب.
جاء في رواية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قرأ قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] يبكي حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك فقال: كان لي بنت في السادسة من عمرها، وعندما أخذتها لأضعها في التراب كانت تزيل التراب عن لحيتي.
لكن بعد الإسلام أصبح الصحابة رقيقي القلوب، فكانوا كثيري البكاء، وكان الواحد منهم إذا سمع شيئاً من الوعيد، أو آيات من القرآن يسيل دمعه مباشرة، والعين كلما كانت كثيرة البكاء دل ذلك على زكاء النفس.
أبو بكر الصديق كما في صحيح البخاري: (همَّ أن يخرج من مكة مهاجراً إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال له: أين تذهب يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي -فماذا قال له زيد؟ وكان زيد رجلاً كافراً آنذاك- قال: يا أبا بكر! مثلك لا يخرج ولا يُخرج؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر) خروجك خسارة! خروج المصلحين والأتقياء من أي بلد أكبر خسارة! مكارم الأخلاق هي الطريق الطبيعي لكسب قلوب العباد، ولذلك كانوا يبحثون عن أي وسيلة لغزو القلوب فيحاولون إيقافها.
فمثلاً: حصل زلزال في مكان ما، فقامت بعض الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة وأتت ببعض المعونة وقامت بالمساعدة، هذا معناه أن الناس سوف يقولون: إن أصحاب الجماعة الإسلامية هم الذين أتوا بهذه المعونة، فقالوا: من أراد أن يساعد فلا يذكر اسمه ولا اسم جماعته؛ لأنهم يعلمون أن غزو القلوب مسألة خطيرة.
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما طعن عبد الله بن أبي في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد الصحابة: (يا رسول الله! دعنا نضرب عنقه، قال: أخشى أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لأن الذي هو في البادية لا يعلم شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: هذا يقتل أصحابه، أين الوفاء والإخلاص؟ فيصده ذلك أن يدخل في الإسلام، فالمصلحة الراجحة تقتضي أن أعامله بالمعروف.
غزو القلوب هو الملك الحقيقي، لذلك أنصحكم أن تعملوا على كسب القلوب، فإنك إذا استطعت إن تكسب قلب إنسان فتكون كأنك ملكته، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما كان يدعو إلى التصدق، استغل عمر هذه الفرصة وقال: (اليوم أسبق أبا بكر) فتصدق بنصف ماله، وأبو بكر عندما تصدق أخذ كل ماله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت مثله، وقال لـ أبي بكر ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: لا أسابقك بعد اليوم).
صهيب الرومي خرج من مكة إلى المدينة بالليل، وعلم كفار قريش بخروجه فلحقوا به وأمسكوه قبل أن يصل، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال، والله لا يكون أبداً، فقال لهم: إن تركت لكم المال تخلون بيني وبين الهجرة؟ قالوا: نعم، فأخبرهم بمكانه، فلما وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقص عليه ذلك قال له: (ربح البيع أبا يحيى)، فهؤلاء ما ضحوا إلا بعد ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.
فلذلك هرقل استدل بهذه الصفات الحميدة؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيملك موضع قدميه، وفعلاً ملك الرسول عليه الصلاة والسلام موضع قدمي هرقل.