يقول هرقل: (وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هذا التقليد الجاهلي بدأ يعود بصورة موسعة في هذا العصر، شخص من كبار العلمانيين عندنا، والله سبحانه وتعالى ابتلاه بمرض عضال، ونذكر هذا لنُذكِّر أنه ما انتصب رجل لحرب الله ورسوله إلا رجع مدحوراً، وكان هذا الرجل قد كتب مقالاً في أحد الجرائد، وقد أغلقت هذه الجريدة بعد هذا المقال، قال: إن الذين يظهرون التدين تدينهم غير حقيقي؛ لأن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي، يعني: وجد نفسه فقيراً ففزع إلى الله، فنقول: هل هذا خطأ؟ لا، شخص وجد نفسه فقيراً، وعرف أن كل الأغنياء لا يملكون لأنفسهم غنى، فرجع إلى الغني الكبير، فهل هذا يعيبه؟ قال: هذا التدين لابد أن يكون منبعثاً من القلب، يعني: يتدين بدون هدف، ولا يكون مصلحياً، هكذا قال! ثم ذكر قول رابعة العدوية: (اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك الكريم فلا تحرمني من وجهك).
هذا كلام خاطئ! فهل الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسأل الله الجنة ويعوذ به من النار كان يعبده عبادة التجار؟!! كل الأنبياء كانوا يسألون الله عز وجل الجنة ويعوذون به من النار، ويسألونه العافية، ويعوذون به من المرض.
فيقول: إن التدين الحقيقي أن يقبل الإنسان على الله دون أن يكون له غرض، فالإنسان إذا لم يكن له حافز لم يعمل، وهذه طبيعة الإنسان، فنحن مثلاً على المستوى الدنيوي عندما نأتي بشخص ونقول له: اعمل كذا وكذا، وسوف نعطيك مائة جنيه، فإنه سيعمل ليل نهار حتى ينجز هذا العمل ويحصل على المائة جنيه، ولو لم يكن هناك مقابل فإنه لن يقوم بأي عمل؛ لأن هذه مربوطة بتلك وهي طبيعة الإنسان، لذلك الله تبارك وتعالى جعل الجنة للمطيعين، وجعل النار للعصاة، لماذا؟ لأن الإنسان لا يتحرك إلا بحافز، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) عندما تتأمل هذا الحديث تجده يؤكد الكلام الذي قلناه، فالإنسان إذا قامت الساعة وفي يده فسيلة، فإنه سيتركها ولن يغرسها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (فاغرسها)، فلماذا أمره أن يغرسها؟ لأن الإنسان يتصرف بما جبل عليه، فهو عندما يزرع نخلة فإنه إنما يزرعها ليأكل منها هو وأولاده، لكن لو علم أنه لن يأكل منها أحد ولن ينتفع منها أحد ما غرسها، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: خالف طبعك، خالف جبلتك واغرسها.
لما جاء صحابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: (يا رسول الله! -وكان يأكل تمراً- مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) لماذا؟ لأن الذي سوف يحبسه عن الجنة أنه يأكل التمرة هذه، فألقى التمرة وقاتل حتى قتل.
لكن لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك شيء، فهل من الممكن أن يرمي التمر ويذهب يقاتل؟ بل سيقول: آكل وأستريح، ولذلك لما جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير أيام فتنته مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وقال له: أنا فارس مغوار! ومقاتل شجاع! يمكن أكون في المقدمة، لكن كم تعطيني؟ قال له: أعطيك كذا وكذا، قال له: زدني، فقال له: بعد أن نرجع، فتولى الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي نقداً وتعطيني دراهمك نسيئة.
الإنسان معروف أنه لا بد أن يعمل لشيء، لذلك خلق الله الجنة والنار، وجعل الجنة درجات، وقد كان من الممكن أن تكون درجة واحدة، لكن كل إنسان يجتهد أن يكون في أعلى الدرجات في الجنة.
والنار -عياذاً بالله- جعلها دركات من أجل أن العبد إذا اقترف المعصية يخاف، فيستقل من المعاصي بقدر ما يمكن.
فعندما يأتي هذا العلماني ويقول: التدين الحقيقي يجب أن يكون إلى الله بدون دافع، فهو جاهل، لا يعرف شيئاً، ولم يقرأ شيئاً من الوحي، ولا حتى يعرف طبائع الناس، يقول: إن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي العام! هل هذا يعاب الإنسان به؟ لا يعاب الإنسان به، لذلك دائماً تجد كل أتباع الرسل في كل زمان هم الضعفاء، لا تجد منهم السادة، ولا تجد منهم أصحاب المناصب، بل تجد دائماً أصحاب المناصب والأشراف هم أصحاب الهوى، وهم أعداء الأنبياء، ولذلك النظام الجديد الذي يجتاح العالم الآن وبكل أسف دخل على العالم الإسلامي، والذي هو تقليص دخل الفقراء، فأنت عندما تنظر الآن شروط التقديم في الكليات العسكرية تجدها تغيرت عن قديم، فقد كانوا قديماً يقولون عندما تذهب إلى النظام الاشتراكي: إن الكل يتساوون في الطابور هذا جنب هذا، الآن أصبح في استمارة التقديم لا بد من معرفة إذا كان هناك أحد قد سبقك في هذا المجال فقالوا: لأن القلاقل التي حدثت في مثل هذه الأجهزة حدثت بسبب المتدينين، الذين هم الفقراء، ولا يمكن أن يبيع أحد منهم دينه من أجل شقة أو سيارة، فغيروا النظام إلى النظام الملكي، فتكون هذه المناصب للأعيان وأولاد الأعيان، لماذا؟ لأنهم أصحاب دنيا، وكل آمالهم من الدنيا شقة وسيارة، ورصيد في البنك، فإذا عملت كل هذه الأشياء فسيوافقون على أي قرار أو عمل.
فأتباع الأنبياء دائماً ضعفاء، وهذا لا يعيبهم، لماذا؟ لأن الحق لا ينتصر بقوة العدة ولا العدد فقط، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فالنصر من الله تبارك وتعالى، ونحن لا نملك تأثير الأسباب، العدة والعدد لهما دور في الانتصار لكن ليست هي السبب الرئيس في النصر؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم انتصروا في بدر وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً أمام ألف رجل من قريش خرجوا مدججين بالسلاح، ومع ذلك نصرهم الله تبارك وتعالى على عدوهم لما جمعهم على غير ميعاد.