أيهما أعم الكذب أم الغدر؟ الغدر أعم من الكذب؛ لأن الغدر يمكن أن يتم بأشياء كثيرة غير القول، فقد يكون بالفعل، يعني: بالجوارح وهي كثيرة، أذكر منها حديثاً رواه أصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أمّن الناس جميعاً إلا أربعة رجال وامرأتين -يعني قال: كل الناس آمنون، إلا أربعة رجال وامرأتين- قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا إهدار عام لدم هذا الإنسان، أي واحد يقابله يقتله، يعني: أنه لم يندب أحداً لقتله: (ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) لأنه كان فيما مضى أي إنسان يتعلق بأستار الكعبة مهما كانت جريمته حتى وإن قتل فهو في أمان، فكان كل من قتل تعلق بأستار الكعبة.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا تأكيد على إهدار دمائهم.
وهؤلاء هم: مقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي السرح، وعبد الله بن خطل، وعكرمة بن أبي جهل، والمرأتان لم تذكر أسماؤهما.
أما مقيس بن صبابة فأدركوه في السوق فقتلوه، وكذلك قتلوا عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.
أما عكرمة فهرب، وركب البحر، ولما أوشكت السفينة على الغرق، قال صاحب السفينة: إنه لن تنفعكم آلهتكم هنا، فلا ينفعكم إلا الإخلاص، فأخلصوا في الدعاء، ولذلك عند الشدة لا تجد أحداً منافقاً أو مرائياً بل يخلص أشد الإخلاص.
فقال عكرمة: (والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلن ينجني في البر غيره، والله لئن سلمني الله لآتين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم بين يديه فقبل منه.
بقي عبد الله بن أبي السرح، والذي كان أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، فأول ما علم أن دمه مباح هرب عند عثمان، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، فلما علم عثمان بن عفان بذلك، أخذ عبد الله بن أبي السرح وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تعلمون مكانة عثمان رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان عزيزاً غالياً، فجاء عثمان رضي الله عنه ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله وراءه، فقال: (يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يبايعه، قال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فلم يبايعه -ثلاثاً- فبايعه بعد الثالثة، ثم قال لأصحابه -وهنا الشاهد-: أليس منكم رجل رشيد، إذ يراني كففت بيعتي -كففت يدي عن بيعة هذا- فيقوم إليه فيضرب عنقه؟ فقالوا: يا رسول الله! هلاّ أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)؛ لأن خيانة العين من الغدر، وسميت كذلك؛ لأنك تظهر شيئاً وتبطن آخر.
فخيانة العين من الغدر، والغدر يمكن أن يكون باليد، وبالعين واللسان، لذلك كان الغدر أعم من الكذب، والكذب أخص من الغدر، فالكذب جنس من أجناس الغدر.
ولذلك سأل أولاً عن الكذب ثم سأل عن الغدر.
وجد أبو سفيان فرصة ذهبية يغمز فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حين سأل هرقل أبا سفيان فقال: (هل يغدر؟ قال: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها) الله أعلم، جائز يغدر.
قال: (ولم تمكني كلمة أقول فيها شيئاً إلا هذه)؛) لأن هرقل كان يحاصره بالأسئلة، فلم يستطع أن يجد أي فرصة إلا هذه، فقوله هذا إشارة إلى أنه يمكن أن يغدر، أما الكذب فلا.
حقيقة أنا لم أعلم أحداً في المناظرة يطبق هذا المنهج إلا شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو يناظر تحس أنه أسد خرج من القفص، وهو يناقش في القفص يقول له عندما يتقابل سؤالان: قل: نعم أو لا، أو فيه تفصيل؟ وبعد ذلك يقول للسائل: قل الذي تريده، يعني مثلاً: شخص سأل عن مسألة في أصول التوحيد هل يعذر قائلها أم لا؟ فيقول: قال تبارك وتعالى كذا وكذا وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وقال العلماء كذا فيدخلك في متاهة، فكان يحاصرهم فيقول: هل يعذر أم لا؟ ويقول له: قل نعم أولا؟ ما الفوائد من هذه الطريقة؟ فوائد هذه الطريقة: أنك إذا سألته عن تفصيل فقال: لا، فلو قال بعد ذلك: نعم، فقل له: ألم تقل: لا، فلماذا غيرت كلامك، لكن لو أنك تركته من البداية ولم تناقشه، فإنه يقول لك: أنت لم تفهمني جيداً، ولم يكن قصدي هذا ويدخلك في متاهات أنت في غنى عنها.