وهناك مثل آخر أعجب: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17] علماء التفسير ذكروا قصة طويلة في سبب نزول هذه الآية، وهي لا تصح عن ابن عباس وإن ثبتت إلى مثل السدي وغيره.
خلاصة القصة: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يسمى برطيطا عَبَدَ الله في صومعة سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين، وكان إبليس الكبير يرسل لكل مؤمن شيطاناً على قدره، فإذا كان المؤمن كبير القلب لا يرسل إليه شيطاناً صغيراً، بل يرسل شيطاناً مدرباً عنده خطط كبرى، فإبليس نفسه له جولات مع برطيطا ولكن عجز، فجمع المردة يوماً فقال لهم: لقد أعياني أمر هذا الرجل، ألا يكفيني واحد منكم أمره؟ فقام الأبيض وهو شيطان مارد والأبيض اسمه، وهو الذي يتعرض للأنبياء، وهو أخطرهم، قال: أنا له.
قال: انطلق! فانطلق ليدعو الغلام، وحلق رأسه على هيئة الرهبان، وجاء صومعة برطيطا ونادى عليه فلم يجبه، كان برطيطا بدأ يتعبد يدخل في الصلاة عشرة أيام كاملة، لا ينتهي إلا بعد عشرة أيام، ويصوم فلا يأكل إلا بعد عشرة أيام، فالأبيض هذا جاءه وهو في أول العشرة أيام فتركه عشرة أيام في أسفل الصومعة لا يجيبه، فلما وجد الأبيض أن برطيطا لا يجيبه قام هو أيضاً فكبر وصلى، فلما انتهى برطيطا من الصلاة نظر من الصومعة فوجد رجلاً على هيئة حسنة وعلى وجهه خشوع وخضوع وإخبات، فندم على أنه لم يجبه، فأجابه: ماذا تريد؟ قال: أن ترفعني إلى منزلتك فأخدمك وأعبد الله معك، قال: إني عنك مشغول، وكبر ودخل في الصلاة، وتركه عشرة أيام أخرى في أسفل الصومعة، فبعد أن انتهى من الصلاة نظر من الصومعة إليه فوجده في غاية الجد والإخبات في العبادة، فقال له: ماذا تريد؟ قال: ارفعني معك أخدمك وأعبد الله معك، قال له: اطلع.
فطلع، فصارا في اجتماع.
برطيطا آخر جهده عشرة أيام، وإذا بالأبيض يصلي أربعين يوماً كاملة، فنظر برطيطا إلى عبادته واستقلها، قال: هذا تقصير مني! أنا فعلاً مخطئ لأني لم أجبه.
ثم بدأا يعبدان الله جميعاً، فقال له الأبيض: علمني! فقال له: لا.
أنت الأستاذ! أنت تعبد ربنا أربعين يوماً مرة واحدة، قال له: أنا سأعلمك ذلك، سأعلمك اسم الله الأعظم الذي إذا دعوت به أُجبت، قال له: ما هو؟ فقال: الاسم كذا، ثم نزل الأبيض يمشي في الأسواق، فذهب إلى رجل وصرعه، فأهله يبحثون عن طبيب، فعمل نفسه طبيباً وذهب، قال: ما حكاية هذا الولد؟ قالوا: مصروع، فأخذ يقلبه، فقال: هذا الرجل مصاب بعلة قوية، ليس له دواء إلا عند برطيطا، اذهبوا إليه، فذهبوا إلى برطيطا، وهو متلبس بهذا الولد معه، فأول ما قرأ كلمتين أو ثلاثاً برئ وفاق الرجل، بعد أن رقاه برطيطا بالاسم الأعظم بزعمه.
نزل الأبيض من صومعة برطيطا وذهب إلى إبليس وقال له: والله! لقد أهلكت الرجل! أي رجل يطيع الشيطان في أقل شيء طمَّع الشيطان فيه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لا يأتيك خير من قبله على الإطلاق.
بعد ذلك بدأ الأبيض يعمل في الناس مثلاً يصرع هذا ويصيب هذا بعلة، وكثر المرض في الناس جداً، وصار المنحوسون يتدافعون إليه ليشفيهم كما زعموا، فذهب الأبيض إلى فتاة من بنات الملوك وصرعها -عمها ملك وأخوتها ملوك- خنقها وجاء في زي طبيب، وقال لهم: لا يوجد حل غير برطيطا، فذهبوا إليه فأبى، قالوا: سنبني لها صومعة بجانبك وتعاهدها، فبينما هو يلتفت ذات يوم إذ رآها سافرة فوقع حبها في قلبه، فبدأ الشيطان يسول له، ما عليك إذا اقتربت منها وإذا فعلت وفعلت ثم تتوب، ما علموا أنك أذنبت ذنباً، وما على المرء إذا أذنب ذنباً واحداً وسعى وراء رحمة رب العالمين؟ فظل به حتى واقعها، فلما حملت قال له: قد فضحت نفسك وفضحت أشباهك!! فكل عابد سيشكون فيه.
وهذه الخطة إبليسية، حيث ينصبون لك رجلاً شبهك، وبعد فترة تكتشف أن هذا جاسوس كان يسعى للتفرقة بين الناس، والإيقاع بالدعاة.
الشيخ عبد الحميد رحمه الله سمعته مرة يقول: إن نسيت فلن أنسى رجلاً خدمني، وقرأ لي ثلاث سنين حتى اعتبرته ولداً من أولادي، وإذا بي أجده يدق بابي ذات يوم في الفجر، وجاء بالجند يقبض عليَّ.
فقال الشيطان للراهب برطيطا: فضحت نفسك وفضحت أشباهك، لأن الناس كلما رأوا عابداً سيقولون: وما أدرانا لعله يكون مثل برطيطا! لم يكن هناك أحسن من برطيطا، إذاً: ما الحل؟ فبعد أن اتضحت المسألة وعلم أنهم قاتلوه، جاءه وقال: هل تعرفني؟ قال له: لا.
قال: أنا صاحبك، وقد -والله- أحيط بك، المطلوب منك حتى أنجدك أن تسجد لي سجدة واحدة وأنجيك، فلما سجد قال: والله يا برطيطا هذا الذي طلبته منك! منذ خمس عشرة سنة وهو يتدرج به ليصل إلى هذه السجدة.
إذاً: ما هي آخر خطوات الشيطان؟ ما هو الذي يريده الشيطان بهذه الخطوات التي لا تبدو خطيرة؛ لكن إذا جمعت بعضها إلى بعض صارت جبلاً؟ لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى قال: والله يا برطيطا هذا الذي أردته منك! لكن لو جاءه أول مرة وقال: اسجد للشيطان لأبى عليه، ولكن تدرج به حتى إذا سجد قال: هذا الذي أردته منك، فأنزل الله عز وجل الآية على مقتضى هذه الحادثة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم