والشيطان يريد أن يوقعك في شر الأمرين، ولذلك نحن ذكرنا أجناس الشر على حسب خطورتها: الشرك، البدعة، الكبيرة، الصغيرة، المباح، المفضول، ستة أجناس، آخرها أهونها، وأولها أعظمها.
فهو لا يرضى عن كفرك بديلاً، هذا مراده الأول والأصلي، فإذا عجز عن إيقاعك في الكفر أوقعك في أي جنس، والله تبارك وتعالى لما خلق الناس خلقهم جميعاً على التوحيد، كما رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطبة، فكان مما قال فيها: ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون -أو ما جهلتم- كل مال نحلته عبداً فهو حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرموا عليهم ما أحللته لهم، وأمروهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإني أنزلت إليك كتاباً لا يغسله الماء، فاقرأه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرِّق قريشاً قلت: ربي! إذاً: يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وأرسل جيشاً نرسل معه خمساً).
وفي هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى قال إنه خلق الناس على الإسلام جميعاً: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
فأول مأمور به: التوحيد، وهو الذي ينجيك من الخطر الأول -الشَرَك الأول- الذي ينصبه الشيطان لك، التوحيد الذي أهملته كثير من الجماعات الإسلامية التي تدعو الناس إلى الله؛ لكن ليس على طريق الرسل، التوحيد نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في القصد والطلب.
أنا لا أتصور أن تطلب من لا تَعرف، إذاً: لابد أن تعرف حتى تطلب، فأول نوعي التوحيد: توحيد الإثبات والمعرفة، وهذا متضمن لذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، وأنت إذا قرأت خواتيم سورة الحشر رأيت الأسماء الحسنى كأنها منظومة لؤلؤ، تهز القلب هزاً: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:22 - 24]، وكذلك إذا تأملت كثيراً من الآيات تجدها مختومة بصفات لله تبارك وتعالى.
وهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) هو المذكور في قوله تبارك تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، هذا هو توحيد الإثبات والمعرفة، عرفناه وأثبتنا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأثبتنا له الكمال المطلق.
النوع الثاني من التوحيد: هو توحيد الألوهية، توحيد العبادة أنك تقصده ولا تقصد أحداً غيره: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] والقرآن مليء بهذا الجنس.
وسورة (الكافرون) في توحيد الطلب والقصد، إذاً: تعرف ربك أولاً حتى تحبه، وتمثل قول القائل: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي أي: اختر أي قتلة تُقتلها، وإنما يختار المرء على قدر نبله وشرفه وتوحيد قصده.
أحببت ربك تقتل فيه، أحببت نبيك تقتل فيه، أحببت المال أحببت النساء أحببت الجاه تقتل فيه.