هذا الراهب العالم زاد هذا الرجل زيادة لابد منها حتى تتم توبته (قال: نعم) وبهذا تم الجواب، ثم قال له: (ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا) إذاً لابد لهذا القاتل من الخروج من أرض السوء وإلا سيعود إلى الإجرام مرة أخرى؛ لأن الإيمان يزيد وينقص، وإذا علم أن رجلاً يقتل مائة نفس في أرض لا يوجد فيها من يأخذ على يديه ويقول له: اتق الله! دل على أنه لا خير في هذه الأرض أبداً، بل لما تجبر هذا الرجل قطعاً وجد جماعة ممن يخافون منه يزينون له معصية القتل، وربما أنه يخشى منهم، فلابد أن يسيغ لنفسه القتل حتى يأمن من شرهم، وربما إذا رجع وتاب عيروه بالجبن والخور والخوف، فيمكن أن يعود مع وجود هذه البطانة السيئة، فلابد أن يخرج من هذه الأرض، حتى وإن حن إليها، لاسيما الأرض التي شهدت ملاعب صباه وعاش فيها، فإنه يحن دائماً.
ولذلك كان جواب العلماء عن دواء العشق -وهو الرجل الذي ابتلي بعشق المرأة- فقالوا: (أن يفارق الأرض التي بها المرأة) لماذا؟ لأنه كلما رأى شيئاً ذكره بها، وما أبيات مجنون ليلى عنا ببعيد الذي قال: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار وهو ماش كان يقبل جدران المدينة كلها لماذا؟ لأن ليلى كانت ساكنة في هذه القرية، فمثل هذا يجب أن يخرج.
وأذكر قصة وقعت: أن رجلاً تزوج على امرأته امرأة أخرى وأدخلها بيتاً بجانب بيت المرأة الأولى، وكان لكل امرأة منهن جارية، فخرجت جارية المرأة الجديدة في الصباح فوجدت جارية المرأة الأولى جالسة على الباب فقالت لها: وما تستوي الرجلان رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت فأجابتها جارية المرأة الأولى إجابة مفحمة جداً وممتازة، قالت لها: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل وهذا حق، الإنسان يذهب إلى جميع بلاد العالم ويعيش في كل بلد عشرين سنة أو عشر سنين أو خمس سنين، ولا يشعر بحنينٍ إلا إلى المكان الأول الذي شهد ملاعب صباه، وقضى فيه أفضل فترات عمره الأولى، فالإنسان كثير الحنين إلى الأماكن التي قضى فيها معظم عمره.
فهذا الرجل إن ظل في هذه الأرض فقد يجره هؤلاء القوم إلى الإجرام مرة أخرى؛ فكان من الأفضل له أن يفارق هذه الأرض، ولذلك قال له ذلك الراهب العالم: (اخرج من أرضك أرض السوء)، إذ ليس فيها رجل يأخذ على يده؛ فهي أرض سوء حقاً (اخرج من أرضك فإنها أرض سوء واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً صالحين فاعبد الله معهم) وهذه هي بركة معاشرة الصالحين ومخالطتهم أن الإنسان لا يستطيع أن يتظاهر بالمنكر بينهم أبداً حتى ولو كان سيئاً لماذا؟ لحرمة الدين وكثرة الصالحين، وفي بعض طرق الحديث: أن القرية التي كان فيها هذا الرجل القاتل اسمها: (كفرة)، والقرية التي أمره العالم أن يخرج إليها كان اسمها (نصرة)، والحقيقة أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة قوية جداً، وما من رجل يراعي مثل هذه المسألة إلا ويجد تناسقاً عجيباً بين الاسم والمسمى، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أن يدل أمته على اختيار أفضل الأسماء؛ لوجود علاقة بين الاسم والمسمى، لذلك يقول: (لا تسمين غلامك رباحاً ولا نجاحاً ولا يساراً ولا فلاحاً - لماذا؟ - قال: حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قالوا: لا) فيحصل نوع من النفرة في القلوب يأتي يسأل: يسار هنا؟ فيجيب: لا يوجد يسار، وكأنه نفى اليسار عن البيت، وكذلك الفلاح والنجاح، ويجري هذا المجرى تسمية (إسلام) فيقال: إسلام هنا؟ فيجيب لا يوجد إسلام، فهذه أيضاً تقرع القلب لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر وبينما هو يمشي مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه قابل بريدة بن الحصيب فقال له: (ما اسمك؟ قال: بريدة؟ فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وصلح) فهناك تناسق بين الاسم والمسمى، فانظر هذه: (كفرة) فعلاً ظلمة كلها، رجل يقتل فيها مائة نفس ولا يجد من يأخذ على يديه، والثانية اسمها (نصرة) فالأرض قد توصف بأنها سيئة ثم توصف بأنها طيبة، كما حدث في مكة كانت دار كفر ثم آمن أهلها فصارت دار إسلام.
ولذلك وصفها فقال: (أرض سوء) على اعتبار أنه لا يوجد فيها رجل واحد صالح، فهذه الأرض إن تبدلت وصار كل الذين فيها من أهل الصلاح إذاًَ الاسم يتبدل، الأرض لا تقدس نفسها إنما يقدس الأرض أهلها الصالحون.