لقد رأينا الذين دعوا إلى تحرير المرأة، أمثال هدى شعراوي، ودرية شفيق، وأمينة سعيد، وكل هؤلاء خالفوا المجتمع، وكان المجتمع يومئذٍ عليهم، ليس لأن المجتمع كان ملتزماً، ولكن لمخالفة العادات والتقاليد، فـ هدى شعراوي لما ذهبت إلى باريس وانحلت من العادات والتقاليد التي كان المجتمع متحلياً بها، وكان من ضمن تلك العادات آنذاك النقاب، وهو البرقع الذي تستر به المرأة وجهها، ولا زالت هذه العادات موجودة في بعض البلاد العربية، أن المرأة لا يراها أحد من أهل بلدها، فإذا ذهبت إلى لندن أو واشنطن أو باريس خلعت نقابها؛ لأنه عيب أن تُرى المرأة متنقبة في غير بلدها، لاسيما إذا كانت امرأة أمير، فلا تُرى أبداً في بلدها ولكن تتعرى في الخارج، فالمسألة مسألة عادات وليست مسألة التزام.
فهذه المرأة عندما ذهبت إلى باريس وأثناء عودتها ذهب أبوها -وكان من الأثرياء- ومجموعة من الأثرياء ليستقبلوها وهي راجعة في السفينة، فإذا بالمرأة تنزل من السفينة سافرة الوجه، مكشوفة الشعر لقد ذهبت متنقبة ورجعت سافرة، فعندما رآها أبوها غضب ولم يتحمل هذا الموقف وانصرف وتركها، وكان المجتمع كله ضد هؤلاء، حتى إن واحدة ممن سميتهن أدلت بحديث وهي مفتخرة، أنها أول بنت لبست (شورتاً) في الجامعة! قالت: فاجتمع كل من في الجامعة ينظرون إليَّ، فقد كانت مسألة غريبة وعجيبة!! ورغم ذلك صبرن هؤلاء النساء على هذا بدعوى تحرير المرأة، وتحقيق مكاسب، وهي في الشرع آثام وليست مكاسب: (من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، هذه آثام مركبة على صاحبها، جنى سيئة لم يعملها بيديه، فصبرن هؤلاء النسوة، وكن طلائع هذا السفور المزري الموجود في بلاد المسلمين، أفلا يكون في مقابل هؤلاء نساء صالحات يدعون النساء إلى الرجوع إلى البيت مرة أخرى، ويفدين هذا المبدأ بأنفسهن، ويكن طلائع هذا الفتح، لاسيما والشرع وكلام الله ورسوله يعطيهن من القوة ما لا يمكن أن تحرزه امرأة من هؤلاء اللواتي دعون إلى التبرج؟! ثم البائعون أصاحب المحلات، ألا يكون منهم من يكتب في وقت الصلوات (مغلق للصلاة) ويغلق الباب، ويأمر الذين يعملون معه أن يذهبوا إلى المسجد؛ لعله يفتتح هذه السنة على كل المحلات التي حوله! من الذي يفتتح مثل هذا ويجعله حسبة لله عز وجل، ويعلم أن الرزق لن يفوته على الإطلاق، وأن ما قدره الله كائن له لا محالة؟! من الذي يفتتح مثل هذا الباب ويفعله، ويكون على ثقة أن الله لن يضيعه، وأن رزقه لن ينقص ريالاً واحداً؟! إن الثبات على المبدأ لا يكون إلا بعد أن تعتقد هذا الدين، فإن كثيراً من الناس قد يلتزم؛ لأنه يحب الداعية الفلاني، فهو التزم لأجله، فإذا عامله -مثلاً- هذا الداعية بقسوة أو غلظة، فإن كان ملتحياً حلق لحيته، وإن كان يقيم الصلاة في المسجد ترك الصلاة فيه هذا انتكاس؛ لأنه ليس له مبدأ، فلم يثبت أبداًَ.
إن بعض الناس لا يلتزم بهذا الدين إلا إذا أعطي شيئاً من متاع الدنيا، فإن أعطي شيئاً رضي والتزم بهذا الدين، وإن لم يعط ما يريد انتكس مرة أخرى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
وفي أمثال هؤلاء يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري وابن ماجة وغيرهما من حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، انظر إلى هذا الحديث العظيم الذي يصف شريحة من الناس لا يرجعون إلى الالتزام إلا بالمال.
وهناك سهم في الزكاة هو سهم المؤلفة قلوبهم، فالرجل قد يأتي ليسلم لأجل المال، ولا مانع أن يعطى أمثال هؤلاء من أموال الزكاة، ولكن لابد أن يُتعاهدوا بالأمر والنهي، وهذا السهم لا زال قائماً، ولابد أن يمتحن ما بين الفينة والأخرى كي يُعلم التزامه.
قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار)، ولم يقل: مالك الدينار، ولا مالك الدرهم، ولا مالك الخميصة، إنما قال: عبد، إشارة إلى هوانه، وأنه لا قيمة له، وأنه صار مملوكاً، وإذا كان عبد الدينار فلا بد أن يكون هناك مالك لهذا العبد، فمن الذي ملكه إذاً؟! إن الدرهم هو الذي ملكه، والخميصة هي التي ملكته، إذاً: صار الشيء مالكاً وصار هذا المالك عبداً: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس)، أي: نكص على عقبيه ورجع، (وإذا شيك فلا انتقش)، وهذا دعاء عليه، أي: إذا دخلت في قدمه شوكة فيا رب لا تخرجها، فلا انتقش ولا أخذ الشوكة أحد بالمنقاش، فهذا نمط من الناس إنما يرجع إلى الالتزام بالمال.
وهناك نمط آخر يرجع إلى الالتزام بالمصيبة، فإذا أصيب رجع، ولكن سرعان ما ينتكس أمثال هؤلاء.
إذاً: حسن التصور وأن تعرف أين موضع قدميك يعينك على الثبات، وضغط المجتمع المخالف من أقوى أسباب الوهن، وينتكس به كثير من الذين لم يتحققوا بواقع هذا الدين، أما الذين آمنوا به فإن هذا لا يزيدهم إلا ثباتاً، كما في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في صحيحه لما سأل هرقل أبا سفيان عن الذين دخلوا في الإسلام أول ما ظهر، فقال: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد إذ دخل فيه؟ قال له: لا.
فعلق هرقل قائلاً: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب).
فإذا دخل الإيمان وتخلل القلب فإنه يصير ملازماً له، لا يتركه، كذلك الذي يدخل في هذا الإسلام ولا يتركه سخطة لدينه، سواء ضرب، أو أخذ ماله، أو جلد، أو عذب كل هذا لا يكون حاملاً له على أن يترك دينه.