في الماضي عندما كان هناك انتماء وولاء خالص للإسلام كان هناك أطفال في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، أمثال معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، لهم موقف شبيه بهذا الموقف، فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (كنت أقف في الصف يوم بدر، فإذا بغلامين، جاءني أحدهما فقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: ثم جاء صبيٌ مثله فغمزني وقال مثلها، فعجبت! فلما رأيت أبا جهل يجول في الناس قلت: هذا صاحبكما! فتوجها إليه فضرباه جميعاً، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته! فذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلٌ يدعي أنه قتله، -شرف أن يقتل عدو الله ورسوله، هذا هو قصب السبق، وهذا هو الولاء والانتماء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
فلما نظر إلى السيفين قال: كلاكما قتله تطييباً لخاطرهما-).
إن هذه محنة، ومن المحن تأتي المنح، وقد قرأت خبراً عجيباً: قصة شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصادق المخبر في كتاب: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) يقول: حدثني كثيرٌ من الثقات والعلماء الغزاة الذين كانوا يحاصرون بني الأصفر (الروم) أنهم كانوا يحاصرون المدينة شهراً وشهرين وأكثر، وأهل المدينة يتحصنون بالحصون وعندهم الأكل والشرب، قال: كنا نحاصرهم شهراً وشهرين وأربعة حتى كدنا أن نيأس في غزوهم، وإذا هم قد سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ففتحنا الحصن بعد يومين، فقال هؤلاء العلماء: كنا نتباشر بسب النبي صلى الله عليه وسلم مع امتلاء قلوبنا غيظاً من ذلك، يتباشرون أي: يستبشرون، فإذا سمعوا أهل الحصن يسبونه عرفوا أن الفتح قادم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]، إن شانئه وسابه لا يموت بخير، وهو مهزوم، فكأنهم فعلوا ذلك بشارة، مثلما كانت بشرى لأسلافنا أنهم لم يستطيعوا فتح الحصن إلا بعد أن سبوه، فأسلمهم الله عز وجل لهم وفتحوا الحصن بعد يومين.
واتفق العلماء على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل؛ مسلماً كان أو ذمياً؛ وذلك رعايةً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم.