عزة المسلمين في دينهم والتزامهم به

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي -وكان إذ ذاك كافراً- قال لقريش: ألست منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى.

قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى.

قال: فدعوني آته -يقصد النبي عليه الصلاة والسلام- فأعرض عليه.

وقد عرض عليهم خطة رشد، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ بديل بن ورقاء قبل أن يأتي عروة بن مسعود: إننا ما جئنا لقتال، إنما جئنا قاصدين البيت.

وكان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد أهلوا بالعمرة، فصدتهم قريش عن البيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ بديل بن ورقاء: (إننا ما جئنا لقتال، إنما جئنا قاصدين البيت، فإن شاءوا ماددتهم مدة، وإلا فوالله لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي).

فهذا الكلام لم يعجب قريشاً، وظلت القضية في شد وجذب، فلما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا الشد والجذب قال: دعوني آته فربما تكون هناك أمور أخرى في المفاوضات، فيقول قولاً آخر بخلاف ما قال لـ بديل بن ورقاء.

ثم إن عروة بن مسعود قال ذلك القول ليؤكد أمانته في رفع التقرير، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل بن ورقاء.

فجاء عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا محمد! إنها واحدة من ثنتين: إذا قامت الحرب بيننا وبينك، واجتحت قومك وغلبتهم، ووضعت أنوفهم في الرغام، فهل علمت أحداً اجتاح قومه قبلك؟).

كأنه يذكره بأن هذا ليس من مكارم الأخلاق فيقول: إنك إذا ظفرت بقومك وأهلك وعشيرتك كنت تفعل فيهم كل هذا، أو كأنه أراد: وما أخالك تستطيع أن تفعل ذلك.

فلو قامت الحرب -فوالله- ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال أبو بكر رضي الله عنه: (أنحن نفر وندعه؟! امصص بظر اللات).

فقال عروة بن مسعود: من هذا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه ابن أبي قحافة.

فقال: والله! لولا أن لك علي يداً لأجبتك.

وفي رواية محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور في هذا الحديث قال: (ولكن هذه بتلك)، يعني: هذه الإساءة منك أكلت جميلك السابق، وليس لك عندي الآن جميل، ومعنى الكلام: أنك لو تكلمت في حق آلهتنا لرددت عليك؛ لأنك استوفيت جميلك السابق بهذه الكلمة العظيمة (امصص بظر اللات).

ثم حان وقت صلاة الظهر، فجيء للنبي صلى الله عليه وسلم بوضوء، وتركهم النبي عليه الصلاة والسلام يفعلون ما كان ينهاهم عنه قبل ذلك، وهذه سياسة حكيمة! هذه هي السياسة الشرعية: رعاية المصالح، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان ينهى الصحابة عن القيام عليه وهو جالس، فقد فعلوا في هذا الموقف ما هو أعظم من القيام، ومع ذلك تركهم، لماذا؟ حتى يرى عدوه أن هؤلاء لا يسلمونه أبداً، وأن هؤلاء لو دخلوا في حرب لا يهزمون.

ثم جيء بوضوء فتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام، فاقتتل الصحابة على وضوءه، كلما سقطت قطرة ماء من أعضائه على الأرض.

أقول: كان ينهى عن أقل من ذلك، مثلاً: عندما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله) فهذا مجرد كلام! وهو كذلك، هو سيدنا لا شك في ذلك، ومع ذلك يقول: (قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله).

تركهم يقتتلون على وضوءه، فما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة -والنخامة عادة يتأفف المرء منها -وهي البلغم- إلا وقعت في يد رجل منهم منهم -الكل يطير على النخامة حتى تكون من نصيبه- فدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له -يعني: لا ينظر أحدهم إليه فيملأ عينيه منه، بل كان يصوب وجهه إلى الأرض- ولا يرفعون أصواتهم عنده.

فلما رأى هذا المنظر رجع إلى قريش ورفع التقرير لهم على الأمانة التي أشار إليها في مطلع كلامه، فقال: يا قوم! لقد وفدت على الملوك -كسرى وقيصر والنجاشي- فوالله! ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة إلا وقعت في يد رجل فدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون أصواتهم عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

يعني بالخطة: الهدنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرض على بديل بن ورقاء حلين: الحل الأول: (إن شاءوا ماددتهم مدة) يعني: هدنة لمدة عشر سنوات، (وإلا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي) والسالفة: صفحة العنق، يعني: كأنه قال: لو مات من حولي جميعاً سأقاتل وحدي، ولا أدع هذا الأمر أبداً، فالمسألة فيها إصرار، وليست هزلاً: (لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي)، فلما رأى حوله مثل هؤلاء الرجال؛ عرف أن المسألة ليس لها حل سوى الهدنة، أما لو دخلت قريش في حرب معه انتهى أمرها.

فرجع عروة بن مسعود يقول: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها -أي: الهدنة- لأنه لا قبل لكم بهؤلاء.

إنما قدمت بهذا الكلام حتى أضع تقريراً لكم عن رحلتي إلى أمريكا؛ لتستفيد منه أمتي، لاسيما ونحن في سنوات الضعف والهزيمة والقزامة، ويظن كثير من الناس أننا لا نستطيع أن نقاوم هؤلاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015