علماؤنا المتبوعون رحمة الله عليهم، كـ أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان، والأوزاعي وهؤلاء السادة كانوا مثل أسلافهم من التابعين وشيوخهم حتى الصحابة رضوان الله عليهم، فساروا على نهجهم سيراً حثيثاً، ليت الذين يتبنون هذه المذاهب يتأدبون بالأدب الذي تحلى به إمام المذهب، اتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام الذي هو فرع عن المحبة الأصيلة في قلب ذلك الإمام العظيم، أظن قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هو قول مشتهر مستفيض عنهم جميعاً، فلا يقدمون قول أحد على قوله عليه الصلاة والسلام.
هذا المعنى نظمه بعض المتأخرين، وهو الشيخ محمد سعيد حفظ المدني، وكان حنفياً ويسكن في المدينة المنورة، وغالبنا لا يعرفه، له منظومة الهدى، نظم فيها قواعد الإسلام وآدابه، منظومة رائقة جداً، يقول بخصوص هذه الجزئية -جزئية الاتباع-: وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل فيه دليل الأصل بالحديث وذاك في القديم والحديث قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام أخذاً بأقوالي حتى تعرض على الكتاب والحديث المرتضى ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول والشافعي قال إن رأيتموا قولي مخالفاً لما رويتموا من الحديث فاضربوا الجدار بقولي المخالف الأخبار وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا فانظر ما قالت الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وذكر في هذه المنظومة أيضاً قول بعض المتأخرين من الأحناف: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان يفصل بالمذهب الحنفي، فقال: واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب فهذا القول من علمائنا السادة الأكابر يدل على محبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مستفيض بل متواتر من أقوالهم التي نقلت عنهم في كتب المذاهب وفي كتب غيرهم، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله لما تناظر هو وإسحاق بن راهويه في مسألة شراء البيوت، فاحتج الشافعي عليه بالحديث، فقال له إسحاق: إن الحسن وعطاء يقولان كذا وكذا.
فقال له الشافعي: أنت فقيه أهل خراسان؟ قال: هكذا يقولون.
قال: كنتُ أحوجَ أن يكون غيرك في موضعك فآمر بقرص أذنه، وهل لأحد قول مع قول النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولما سأله سائل: إذا جاءك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أتأخذ به؟ قال: سبحان الله! أتراني ألبس لباس الرهبان؟ أترى على وسطي زناراً؟ أتراني أخرج من كنيسة؟! أشهدكم أنه إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولاً فلم أقل به أنه قد زال عقلي.
وكذا قاله بعض العلماء المتبوعين كـ أحمد وغيره- قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، قلت به أو لم أقل.
فلله درهم برءوا أنفسهم أحياءً وأمواتاً! وكان الإمام الشافعي يقول لـ أحمد: يا أحمد! أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح عندك الحديث أعلمني به حتى أفتي عليه، -أو قال: أعلمني به حتى أقول به- كوفياً كان أو حجازياً أو بصرياً.
قال الإمام الذهبي: ولم يقل: أو مصرياً؛ لأن الشافعي كان أدرى بحديث أهل مصر من أحمد، إنما قال: بصرياً كان أو كوفياً أو حجازياً ولم يقل مصرياً؛ لأنه كان أبصر بحديث أهل مصر من الإمام أحمد.
فالحاصل أن الاتباع فرع على محبة النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن نعلم ضرورةً أن الذي لا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ما نزعم أنه لا يحبه؛ لأن عدم محبة النبي عليه الصلاة والسلام كفر، لكن نقول: إن المحبة في قلبه خفيفة، ليست هي المحبة التي ينبغي على المسلم أن يتحلى بها، وأن يوقر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتقدم بين يديه بقول ولا فعل، ولله در الإمام السبكي! حيث قال في رسالته النافعة: بيان قول الإمام المطلبي.
إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وليتصور أحدكم إذا بلغه الحديث أنه واقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بهذا الحديث وبهذا الأمر، أكان يسعه أن يرده؟ ليتصور أحدنا أنه الآن يسمع هذا الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام، أكان يسعه أن يرده ويبدي التأويلات، فضلاً عن التمحلات الباردة التي يبديها بعض الناس ليفتن غيره، وذلك بتغيير دلالة الأحاديث النبوية، أكان يسعه أن يقول هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان الجواب بالنفي، فكذلك لا يجوز للمسلم أن يبلغه عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث فيخالفه إلى غيره، إذ أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.