جاء في سنن الإمام الترمذي بسند صحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار)، فحدث بينه وبين ابن عباس جدال طويل حول هذا الحديث، صحيح أن هذا الحديث نُسخ، لكن لم يصل النسخ إلى أبي هريرة، فلا يزال يفتي بالذي سمعه، قال له ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! -أي: سآكل اللحم بغير أن أطبخه؟! - يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ -يعني: ألا يجوز لي أن أتوضأ من الماء الساخن؟ - هبني في شتاء قارس وأريد أن أتوضأ بماء ساخن، لا بد أن تمسه النار، يعني: أنت تلزمني إذاً بعد أن أتوضأ بالماء الساخن أن أحدث وضوءاً بماء بارد لم تمسه النار، إذاً لا فائدة في تسخين الماء.
هل ابن عباس أتى بنص أم بشبه عقلية؟ شبه عقلية، ما أتى بنص، لذلك ثبت أبو هريرة، ولم يرجع عن قوله، ثم قال له: يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال، لا تأت بهذه الشبه العقلية على النص، النص هو المقدم.
صحيح أن ابن عباس روى حديثاً -وهو صحيح- (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عند ميمونة، خالة ابن عباس وكان يحتز من كتف شاة، فدعي إلى الصلاة فصلى ولم يحدث وضوءاً)، فهذا من جملة الأحاديث التي يحتج بها العلماء على نسخ الحديث الأول.
لو أن ابن عباس روى هذا لـ أبي هريرة لرجع أبو هريرة عن قوله، لكن الذي جعل أبو هريرة يثبت على هذا القول: هو أن معه نصاً وابن عباس ليس معه نص، بل جدل عقلي.
انظر! هذا خلاف بين ابن عباس وبين أبي هريرة، هل هجر أحدهما الآخر؟ لا.
كما قلنا: الصحابة انتفعوا بالآيات، وانتفعوا بالأحاديث التي تحث على الترابط والتماسك، ولقد قال بعض العلماء: من عجز أن يقوم الليل، وأن يتصدق، وأن يأمر بمعروف وينهى عن منكر، فليحب أخاه في الله، فإن هذا يحقق به خيراً عظيماً.
وحسبنا حديث أبي هريرة: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية مجاورة، فكان هناك ملك على قارعة الطريق، قال له: إلى أين؟ قال: إلى قرية كذا أزور فلاناً.
قال: هل ترى عليك له نعمة؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله.
قال: فأنا رسول الله إليك إن الله أحبك كما أحببته).
فإذا وصل العبد إلى مثل هذه المرتبة فاز والله، لكن تجد أن روح المحبة طاشت وزالت بخلاف تافه جداً!! ربما جزئية واحدة نختلف فيها تفرقنا، ومائة ألف جزئية متفقون عليها بيني وبينك لا تجمعنا! قد أكون متفقاً معك في عشرات المسائل، متفقاً معك في العقيدة، متفقاً معك في غالب الفروع، لكن خالفتك في جزئية واحدة، تتجنبني، ولا تصلي في المسجد الذي أصلي فيه، وإذا ذكرتني ذميتني.