إن أسباب نجاح المجتمع الذي كونه النبي صلى الله عليه وسلم كان من أساسه: صدقهم في هذه الأخوة، فقد كانت الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً.
في صحيح البخاري أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقسم بيننا وبين إخواننا النخل، قال لهم: لا) لماذا؟ لأن المهاجرين لم يكونوا يحسنون الزرع، فمعنى أنهم يأخذون نصف النخل ولا يحسنون الزرع أنهم سيتلفونه ولا يستفيدون به، إذاً: ماذا يفعلون؟ قال المهاجرون للأنصار: (تكفوننا وتقتسمون معنا الثمر)، يعني: أنتم تشتغلون بالفلاحة وبما يتطلبه النخل، ونحن نقسم معكم هذا الثمر في آخر الموسم.
بل كان من شأن الأنصار عجباً! أنهم كانوا إذا أرادوا أن يقسموا التمر وضعوا أيضاً معه سعف النخيل -وهو الجريد- فكانوا يأخذون بعض الثمر مع السعف، ويجعلون في مقابل هذا السعف تمراً كثيراً للمهاجرين، يعني: كانوا يبخسون أنفسهم حقها، وهم أصحاب الزرع والثمر.
فلما كان يوم خيبر وتدفقت الأموال، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفيهم حقهم، فقالوا: (يا رسول الله! إننا فعلنا الذي أمرتنا به -يعني فعلنا ما شرطت علينا- وإنك وعدتنا شيئاً في مقابل هذا، فنريد أن توفي لنا به، قد وعدتنا الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك لكم)، أين في المسلمين الآن من يقتسم اللقمة مع أخيه بحق، فضلاً عن أن يجور عليه أو أن يتهمه أو أن يأكله؟ إننا وضعنا أيدينا على مكمن الداء، وهو أن كل رجل في المسلمين إنما هو بمفرده يتحرك وحده، لا يلتصق بأخيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر).
هذا المجتمع مجتمع المؤمنين، وليس مجتمع أدعياء الإيمان، مجتمع المؤمنين الحق: إن أخاك إن تألم شعرت بوجع في قلبك هذا هو مجتمع المؤمنين! أما مجتمع أدعياء الإيمان فحدث عن الخلل الذي فيه ولا حرج، فهو أشبه بمجتمع اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، انظر إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، حتى في معرض القتل يذكره بأنه أخوه، لم يقل له فمن عفي له ممن قتله شيئاً، إنما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178] حتى في معرض القتل والقلوب لدى الحناجر يذكرهم بأنهم إخوة، فما بالك إن لم يكن هناك قتل؛ فإن وجود رابطة الأخوة أدعى؟! وقد قال الله عز وجل أيضاً: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] قال هذه الآية بعد قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] هم يقتتلون، والذين يقتتلون عادة ينسون روابط المودة، بدليل أنه يمكن أن يقتل أخاه -في ساحة الحرب- الذي كان يبادله الود بالود، لكن هذه حرب، ومع ضراوة هذه الحرب يذكرهم الله سبحانه بأنهم إخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
وفي معرض الطلاق الذي يشحن النفوس ويشحذ، ويكون كل طرف متربصاً بالآخر، يقول الله عز وجل: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ليس لمجرد أنك طلقت المرأة أن تقطع روابط الصلة بينك وبين أهلها، في مثل هذه المواقف -التي تتغلب فيه النزعة الترابية الجسدية على نزعة الإيمان والروح- يذكر الله تبارك وتعالى بوجود هذه الروابط بين المؤمنين.
فهذه الأشياء إن لم تكن موجودة؛ فمن باب أولى أن يوجد هذا الحب والود.
إن ضياع هذه الأخوة أوقعنا في مأزق كبير جداً، فلا نستطيع الآن أن نجمع بين شتات المؤمنين؛ حتى عيرنا الكفرة، وأخذوا سفاسفنا وأظهروها على أنها كبائر، وصاروا يعيرون المؤمنين، والله تبارك وتعالى: {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] (ما بأنفسهم) أي: الذي علق بأنفسهم، وإن الله تبارك وتعالى سنته لا تتخلف ولا تختلف.
قرأت اليوم لأحد الصحفيين، يقول: إن العالم كله الآن مبهور، ويتابع باهتمام سفينة الفضاء التي أطلقوها من اثني عشر عاماً، وقد قطعت أكثر من أربعة آلاف مليون كيلومتر، يقول: فبينما العالم يهتم بهذا فماذا نجد في بلادنا؟ نجد القوم يناقشون فوائد البنوك هل هي حرام أو حلال، وستر الوجه أهو واجب أم مستحب، ونقل الأعضاء أهو جائز أم لا.
انظروا إلى هذا الجاهل! وما علاقة أن ترسو سفينة الفضاء على أي كوكب بالذي قاله؟! أيريدنا أن نأكل الربا مثلاً، وما علاقة هذا بهذا؟! وهل سلط الله عز وجل خراف البشر على هذه الأمة المتآكلة التي أكلها الجهل والهوى إلا بعد أن أكلوا الربا؟! إنهم رأونا أمة مستضعفة، كلؤنا مستباح، وليس هناك أحد ينتقم منهم ويردهم على أعقابهم، فشددوا وطأتهم.
يقول الصحفي: وقد سمعت أحد الدعاة هنا في خطبة جمعة يقول: جاءني رجل فقال لي: إني ألقيت يمين الطلاق على امرأتي، وقلت لها كذا وكذا هل وقع اليمين أم لا؟ يقول الصحفي: العالم وصل إلى القمر وهذا يسأل عن هذا، وهذا رجل داعية يعتلي منبر أكبر مسجد ويتحدث عن هذا.
فنقول له: كفى جهلاً! فما تمكن الأعداء من الأمة إلا عندما ضيعت أمر ربها وشرعه، وأصبحت أمة ينخر فيها السوس، ولا صريخ ولا منقذ؛ لأنها هانت على الله، وتركت شرعه، وخالفت الأخوة الإسلامية التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام.
فأين أخوتكم أيها المسلمون؟ إننا نرى الرجل يختلف مع أخيه في مسألة فرعية أو مسألة تافهة؛ فيكون حاله كما قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلنْ أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا يعني: إن تضربني مرة أضربك عشر مرات، ورجعت العصبية المقيتة التي قتلها النبي صلى الله عليه وسلم ووضعها تحت قدميه، وبدأت تطل برأسها على المسلمين.
وكان من نتيجة غياب هذه الأخوة أن ظهرت هذه الأنانية، وأن ظهر هذا الكبر والاعتداد بالنفس، وما ظهرت هذه الصفات في مجتمع إلا قتل، وكلمة (أنا) قد فتكت بثلاثة عتاة؛ فتكت بإبليس عندما قال لله عز وجل: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فما كان مصيره؟ كان مصيره النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وكذلك قارون عندما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] هذا بعبقريتي وذكائي، أنا كنت أعلم أنني سأكون غنياً؛ لأنني ذكي أحسن التدبير والخطط: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، اعتداده بنفسه، فماذا فعل الله به؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
وكذلك صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف الذي قال الله عز وجل فيه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف:32]، هذا الرجل قال لصاحبه وهو يحاوره: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] فماذا كان جزاؤه؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف:42]، صاحبه قال له: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، فلعل بعضكم يقول: هذا الرجل الصالح قال: (أنا) أيضاً؟! نقول: هناك فرق شديد بين (أنا) هنا و (أنا) هناك، إنك لو حذفت كلمة (أنا) في قول الرجل المتكبر ما استقام المعنى، ولو حذفتها في كلام الرجل الصالح لاستقام المعنى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} [الكهف:34] أحذف كلمة أنا تجد أن المعنى لا يستقيم، فهذا يدل على أن كلمة (أنا) يدور حولها المعنى، بخلاف قول هذا الرجل الصالح: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] فلو حذفت كلمة (أنا) استقام المعنى: (إن ترني أقل منك مالاً وولداً)؛ فيدل على أنه لم يعني كلمة (أنا)، إنما قالها في مقابل قول الرجل: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، فهو يقول له: إن كنت تراني أنا -هذا المستضعف- أقل منك مالاً وولداً {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} [الكهف:40].
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (طرقت الباب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ فقلت: أنا.
فسمعته من داخل الدار يقول: أنا أنا! كأنما كرهها) لماذا كرهها؟ لأنها تشعر بكبر، وإن كنا لا نعتقد أن جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك، إنما غيره يمكن أن يكون كذلك، فكأنما -وهو يقول: (أنا) - يقول: أنا مستغن عن نسبي وعن تعريفي، (أنا) فلم يقل: أنا جابر أو أنا ابن عبد الله الأنصاري، إنما قال: (أنا)، قال ابن الجوزي رحمه الله: (فيها نبرة كبر) لذلك كرهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يكره شيئاً إلا أن يكون ممقوتاً ولا يأتي بخير، ونحن نتابعه صلى الله عليه وسلم، ونعمل بسنته، فإنه ما تضيع سنة إلا تحل مكانها بدعة، وما يزول إيمان عن بقعة من الأرض إلا حل محله مثله من الكفر، كالزجاجة الفارغة إن لم يملأها شيء ملأها الهواء، فلابد أن تملأ بشيء، ونف