ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الأخوة عقداً نافذاً لا كلاماً فارغاً لدرجة أنهم كانوا يتوارثون دون ذوي الرحم، كانوا يتوارثون بهذه الأخوة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن من المهاجرين وسعد من الأنصار، فقال سعد: (يا عبد الرحمن! إني أكثر أهل المدينة مالاً ولي زوجتان، فأقسم مالي نصفين، وانظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما أطلقها ثم تزوجها أنت، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق) فدله على السوق فانقلب في ذلك اليوم بفضل أقطٍ وسمن -الأقط: هو اللبن الجاف- وما هي إلا أيام حتى قابل النبي صلى عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف في الطريق وعليه صفرة كأنه خضاب أو نحو ذلك فقال له: (مهيم -أي: ما هذا الذي أراه عليك وهو أثر الصفرة؟ - قال: إني تزوجت، قال: وكم أصدقتها؟ قال: بنواة من ذهب) نواة من ذهب في بضعه أيام.
إن المرء عندما ينظر إلى سماحة سعد لا يسعه إلا أن يُعجب بنبل عبد الرحمن وعفته فقد قال له: (هذا نصف مالي خذه، ثم انظر إلى زوجتي فاختر أحسنهما) مع أن العرب كانوا يغارون جداً على العرض، ولا يتصور في رجل أن يقول: اختر بين زوجتي أطلقها وتزوجها أنت: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] وقصة الأوس والخزرج والمعارك الرهيبة الجاهلية التي كانت تحصل بينهم لا تكاد تنسى، فإذا لطم الرجل الآخر لطمة تقوم لها الحرب على قدم وساق، وقد قامت الحرب أربعين سنة بين الأوس والخزرج على شيء تافه جداً وقتل ألوف مؤلفة، ونزلت هذه الآية للأوس والخزرج: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] أي: إنك لا تستطيع مهما أوتيت من المال أن تشتري ولاء أحد، ولا أن تشتري قلبه، ويمكن أن يظهر لك الولاء، أما القلب فلا.