عدو الإنس قد يكون من أقرب الناس إليك {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14]، قد يكون من أقرب الناس إليك من يصدك عن الله، تريد أن تلتزم يصدك، خائن يريد أن يأكل رزقك، يريد أن يعيش عيشة الأنعام فيصدك لتكون مثله.
يقول لك: التزامك يضرني فلا تلتزم.
فإن قلت له: هل ودخولي النار لا يضرك؟! تعرضني لعذاب الله ولا يضرك؟! إن كنت تحبني أجب عن هذا السؤال.
- يقول: إن التزامك يؤثر على منصبي.
وتقول له: وانحرافي أنا يعرضني لعذاب الملك، أهذا يرضيك؟! - يقول: نعم.
بلسان الحال وإن لم ينطق بها.
كذلك قضى الله عز وجل على هؤلاء، على هذا النمط: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11]، أعز ما يملك، يقول: يا رب! أدخلهم النار ونجِّني، فإن لم يكفِ هؤلاء {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12]، خذ امرأتي وأخي ونجَِّني، فإن لم يكف هؤلاء {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13]، خذ الأسرة كلها ونجِّني، فإن لم يكفِ ذلك {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14] اعرف هذا! وبعض هؤلاء الأعداء لهم لسان جميل، ومنطق عذب، وقد يصادف عِيًّا في المريد فيضل ويهلك.
وأنا أعطيك مثلاً لتعتبر به، كعب بن مالك كان أحد الأمراء في الجاهلية، فلما أسلم وتخلف عن غزوة تبوك ورجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة، وجاء المنافقون يعتذرون إليه جاء كعب بن مالك من جملة من يعتذر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما خَلَّفك؟ قال: يا رسول الله! لو كنت عند أحد من أهل الأرض لرأيتُ أنني أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -أي: أنا رجل مجادل صاحب لسان لا أُغلب، لكن الشوكة التي في ظهري أنني أمامك، لو كنت عند غيرك لعرفت كيف أخرج، وكيف أعتذر، وكيف أبكيه على حالي بالمنطق المقنع واللسان العذب- لكنني لو حدثتك حديثاً ترضى به عني يوشك الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بحديث صدق تجد به علي إني لأرجو فيه عقبى الله، والله! ما كان لي من عذر.
-إلى آخر كلامه- ثم خرج من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فقابله بعض أقربائه: ماذا قلت؟ قال: قلت: كذا وكذا وكذا.
فقالوا له: والله! لقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله، ما نعلم أنك أذنبت إلا هذا الذنب- ألم تكن تقدر أن تقول له: اعتذر لي، هو ذنب واحد فقط، لو قال: اللهم اغفر لـ كعب ذهب الذنب، أنت ما الذي ورَّطك هذه الورطة؟ وجعلك تعمل من نفسك صادقاً، فرحت تدين نفسك هنا بلسانك- قال: فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي) هذا نموذج من رجل عنده جدل، فكيف بشخص ضعيف لا يستطيع أن يتكلم ولا يستطيع أن يدلي بحجة؟! ماذا سيفعل فيه مثل هذا الكلام؟ عدو الإنس يزين لك وهو أخطر من عدو الجن من أوجه: أولها: أن عدو الجن إذا استعذت بالله فر، وعدو الإنس ماكث لا يفر.
ثانيها: أن عدو الجن لا تراه؛ لكن عدو الإنس يراك وتراه، وفي المشافهة والمخاطبة إقناع، بعض الناس يقتنع لمجرد أن يرى وجه المتكلم، وانفعاله وأساريره، وهذا له دخل كبير في الإقناع، ولذلك ليس مَن رأى كَمَن سمع، إذا كنت تستمع لخطبة الجمعة فإنك تنفعل بها وتؤثر فيك؛ ولكن خذ الشريط واسمعه بعد شهر، ستجده لا يؤثر فيك مثلما يؤثر فيك، وأنت تسمع الكلام المباشر.
فشيطان الإنس أخطر، ولذلك احذره ألف مرة.
ثم احذر نفسك التي بين جنبيك، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].