هنا وقفة أخرى: ما الحاجة إلى شق الصدر، وغسل القلب بزمزم، وملؤه إيماناً وحكمة ويقيناً؟ السلف كانوا يقولون: من باب التبرك، وزيادة الإيمان واليقين، أما نحن الآن فنستطيع أن نضيف شيئاً جديداً؛ لأننا في زمن غزو الفضاء، وفي زمن تدريب وتهيئة رجال الفضاء، فهم تأخذهم الدول، وتجري لهم التجارب، وتعمل لهم الاحتياطات في زمن طويل، ثم تلبسهم من اللباس ما يقاوم الطقس الجوي، ويقاوم عملية الاحتكاك، ويضعونهم في مركبات خاصة، ولولا ذلك المركب لاحترقوا من سرعة وقوة احتكاكهم بالهواء وبالأجرام من حولهم.
كان ذاك العمل يحول من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من بشر عادي إلى بشر فوق العادي من الناحية المادية والجسمانية، ليستطيع أن يقاوم وأن يخترق هذا الفضاء مع سرعة الانتقال وشدة الاحتكاك دونما ضرر عليه.
ومن جانب آخر -وهو أقوى وأهم- تهيئة يقينية معنوية روحية ليقوى على القيام في ذاك المقام الذي ذكره القرآن: بالتنويه عنه {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:12 - 14]، ثم {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18].
فتلك الآيات الكبرى يزيغ بصر الإنسان العادي عنها، ولا يقوى على تصورها، ويطغى فؤاده فلا يقوى على إدراك ما هو أمامه، أي: تأخذه دهشة الموقف، ولكن ما سبق لرسول الله جعله رابط الجأش، ثابت القدم، حاد البصر، ثابت الجنان، قوي القلب، ما زاغ بصره عما رأى من سدرة المنتهى {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16].
(ما) هنا للتنكير وللتعظيم، كقوله: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 2]، وأمام هذا الذي غشي السدرة ما زاغ البصر، وما زاغ الفؤاد، مع أنه رأى من آيات ربه الكبرى! إذاً: كان هذا الإعداد ليتهيأ وليقوى على ذلك الموقف، وقد جاء في الحديث: (أن سدرة المنتهى ينتهي عندها خبر الأرض، وينتهي إليها خبر السماء، ووقف جبريل عندها وقال: هذا منتهاي يا محمد؛ تقدم أنت!)، إذاً: الموقف يحتاج إلى إعداد، ويحتاج إلى تهيئة، فكان ذلك بشق الصدر وملئه إيماناً وحكمة.
وجيء بالبراق، والبراق -كما وصفه صلى الله عليه وسلم- دابة دون الفرس وفوق الحمار، يضع حافره حيث انتهى طرفه، أي أن خطوته مد البصر، كما يقال في عرف الوقت الحاضر: سرعة الضوء، وسرعة الضوء تتضاعف أضاعفاً على سرعة الصوت، إذاً: لا نستنكر الذهاب في لحظات، والعودة في لحظات.
قُرِّب البراق فلم يثبت، فقال له جبريل: (اثبت! فما ركبك خير منه) صلى الله عليه وسلم، يقولون: إن إبراهيم ركب البراق، وكان يأتي من الشام إلى مكة عليه لكي يزور هاجر وإسماعيل، وهي شهر ذهاباً وشهر إياباً! فيذكرون أن البراق كان في الأمم الماضية ولكن: ما ركبه خير منه صلى الله عليه وسلم، فثبت البراق، وتصبب عرقاً، وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بصحبة جبريل إلى بيت المقدس.