حركة الهجرة من بلد إلى بلد تعتمد كثيراً على الناحية الاقتصادية؛ لأن مواردَ البلد حركةُ أهلها، فإذا استقدمت أشخاصاً واستقبلت العديد من غير أبنائها كان ذلك على حساب مواردها، والعالم اليوم عند هجرة كل شعب ينزل به ضيم ويضطر إلى الهجرة إلى جواره، أول ما يفكر فيه أهل البلد المضياف اقتصادياته وتأمين حاجيات المهاجرين؛ هذا أمر طبيعي، فكيف عالجت المدينة استقبال المهاجرين وموارد المدينة آنذاك أغلبها في يد اليهود: الصياغة والصرافة والزراعة والتجارة، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى ودرعه مرهون في شعير عند يهودي.
وجابر بن عبد الله مات أبوه وهو مدين ليهودي.
جاء اليهودي يطالب بالدين في أوسق من تمر، فقال له: خذ ثمرة البستان هذه، قال له: بل تكيل وترد لي الأوسق التي أخذها أبوك.
لم يقبل أن يأخذ الثمرة كلها، ويقعد جابر كئيباً، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه ومشى في البستان ودعا بالبركة، فوفى اليهودي، فوفاه وبقي عنده الكثير.
يهمنا أن المتحكم في الاقتصاد هم اليهود؟ إذاً: كيف تعالَج هذه الناحية؟ سيأتي معالجتها بالإخاء وصفاء النفس؛ وعفة المهاجرين، وبذل وإيثار الأنصار.
بيَّن سبحانه في قسمة فيء بني النضير: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] أخرجوا منها وليس باختيارهم ولا استطاعوا أن يحملوا منها شيئاً.
مثال ذلك صهيب لما جاء مهاجراً وأدركته قريش وقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، والآن صرت ذا مال، وتريد أن تفوتنا بنفسك وبمالك؟! قال: لو دللتكم على مالي، أترجعون إليه وتتركونني.
قالوا: نعم.
قال: مالي دفنته في المكان الفلاني، ولما وصل بشره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح البيع أبا يحيى)، اشترى نفسه.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا} [الحشر:8] يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
يا إخوان! نحن نعاصر هذه الأحداث التي تعيشها دول الخليج العربي، ولنا إخوة من الكويت أخرجوا من ديارهم وأموالهم فعلاً، واختاروا ما شاءوا من جيرانهم سواءً من دول الخليج أو من السعودية أو غيرها، أعتقد أن كل إنسان يدرك أن لهؤلاء الناس حقاً فيما عنده بقدر استطاعته، والناس يتفاوتون في هذا المجال، لا نقول: الإيثار على النفس، ولا نقول: الشح والبخل والضن بما في اليد، بل علينا أن نساعد هؤلاء، فقد كانوا أغنياء في بلادهم، أعزةً في جماعتهم، أهل يسار في بيوتهم، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
إذاً: هذا الحدث أو هذا الموقف يذكرنا بما يجب علينا كإخوة في الله قبل كل شيء، ثم كإخوة في الوطن والعروبة والجوار، كل دواعي مكارم الأخلاق تدعونا إلى أن نقف بجانبهم وأن نساندهم.
كان هذا الموقف مما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم وواجهه المهاجرون مع الأنصار، فكان مجتمع المدينة قسمين: مهاجرون يتعففون، حتى إن الأنصاري كان يقول لأخيه المهاجري: هلم أقاسمك مالي، هلم أنزل لك عن إحدى زوجتي، فـ ابن عوف قال: بارك الله لك في زوجاتك، وبارك الله لك في مالك، دلني على السوق، وذهب يعمل.
علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يمر على امرأة قد جمعت الطين والتبن وعندها البئر قالوا: ما بال هذه المرأة؟ قال: ما وجدت من يحمل لها الماء حتى تعجن هذا الطين لتصلح بيتها، قال: علام تؤاجرين الرجل، قالت: الدلو بتمرة، فملأ لها عدة دلاء، وأخذ عدة من التمر ورجع بها إلى رسول الله، قال: من أين هذا يا علي؟ قال له: من كذا وكذا، فأكل معه منها يد عاملة، منتجة.
إذاً: ما أشبه الليلة بالبارحة، هذه هي الناحية التي عالج بها الإسلام الموقف من الناحية الاقتصادية.
أما الناحية السياسية في تلك الطوائف المتعددة فقد عالجها رسول الله بأقصى حكمة، فجمع الجميع وكتب كتاباً: (هذا ما تعاهد عليه الأوس والخزرج واليهود بالمدينة، كل قبيلة تحمل تبعتها -يتعاونون فيما بينهم- ولا تحمي قبيلة صاحبَ دخيلة ولا صاحب جناية، ومن آوى كذا فعليه كذا، والأمر في المدينة كذا، وما اختلفتم فيه فأمره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما عاهد عليه اليهود: أن لا يعينوا عليه عدواً، وأن يعينوه فيما نابه)، أي: لا يتأخرون في المساعدة إذا لزم الأمر.
وهكذا صارت كل الأحزاب والفرق الموجودة في المدينة ضمن معاهدة رسمية يرجع أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما من الناحية الأخرى بين الأفراد فقد آخى بين المسلمين.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.