خرج صلى الله عليه وسلم يمشي، ثم يدركهم في الطريق سراقة، وكان سراقة لما علم بأن قريشاً جعلت مائة من الإبل لمن يأتي بهما حيين أو ميتين، وسمع من يقول: رأيت سواداً بذاك الطريق، فكان جالساً مع قومه، فقام على السطح وأمر جاريته أن تدني له فرسه وراء البيت، ونزل من السطح على فرسه حتى لا يعلم به أحد، وأخذ في ذاك الطريق، فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له أبو بكر: (الطلب وارءنا يا رسول الله، قال: لا تخف، قال: الطلب قاب قوسين، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفنيه بما شئت).
هذا الدعاء يذكرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الغلام مع ملك نجران الذي اقترف حادثة الأخدود، وهي: أنه كان الملك له ساحر، فقال له الساحر: قد كبرت سني، فاختر غلاماًً أعلمه السحر ليكون ساحراً عندك، وكان الغلام يمر في الطريق براهب يتعبد، فإذا مر عند الراهب سمع ما يقرأ فأعجبه، فعلم به الراهب فكان يدخله ويعلمه الدين، وكان يذهب عند الساحر أيضاً، فكان يتأخر على الساحر فيضربه، وإذا جاء عند الراهب يغيب على أهله فيضربونه فيصبر، فاشتكى للراهب، فقال له: إذا جئت إلى الساحر وقال لك: لم تأخرت؟ قل: حبسني أهلي، وإذا جئت إلى أهلك وقالوا: لم تأخرت؟ قل: حبسني الساحر، فنجا من الضرب، وبقي الغلام على هذه الحالة -التعليم المزدوج- ثم في يوم قال للراهب: أريد أن تعلمني الاسم الأعظم الذي تسأل الله به فيجيبك؟ قال: لا يصلح لك يا ولدي ولا تقدر عليه.
وسأل رسول الله فقال: (أسألك باسمك الأعظم) الذي هو ذكر ألفاظ، وسأل ربه وأجابه، وجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها وقالت: (يا رسول! علمني الاسم الأعظم، قال: لا يصلح لك يا عائشة) وفي بعض الروايات قال: (يا عائشة أما تعلمين أن الله قد أعلمني بالاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، قالت: بأبي أنت وأمي علمنيه.
قال: لا يصلح لك يا عائشة) لأنها سوف تفتن به، فحزنت وقامت تصلي، وقالت: (اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى التي هي كذا وكذا وما سئلت به أجبت، وأنزلت في كتابك، وعلمت أحداً من خلقك، إلا غفرت لي)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه فيما ذكرت).
الذي يهمنا أن الراهب قال للغلام: لا يصلح لك يا ولدي، فقام الغلام وبذكاء، وأخذ الأسماء التي عرفها كلها من الراهب، واحدة واحدة ثم يلقيها في النار مكتوبة فتحترق إلا واحدة لم تحرقها النار، ثم أعاد كتابتها وألقاها في اليم فغرقت كلها إلا واحدة، هي تلك التي لم تحرقها النار، قال: هذا هو الاسم الأعظم.
فجاء في يوم من الأيام يدعو إلى الله في جلساء الملك، وكان من جلساء الملك رجل أعمى، فقال له: أما لك أن يرد الله بصرك؟ قال وكيف ذلك؟ قال: الله! قال: إله غير الملك؟ قال: نعم، الله الذي خلقنا وسوانا، الله الذي يقدر على أن يرد إليك بصرك الذي خلقه فيك أولاً، الله الذي خلق السماوات والأرض، فآمن الأعمى، فدعا له الله بالاسم الأعظم فإذا بالرجل مبصر.
ومن الغد رآه الملك في مجلسه مبصراً، فقال له: من الذي شفى بصرك؟ قال: الغلام، فدعا الغلام وقال: أبلغ بك من السحر أنك تبرئ الأعمى، قال: لا والله ليس سحراً، ولكنه ربي الذي خلقني وخلقك وخلقه هو الذي رد بصره إليه، قال: ألك إله غيري؟ قال: بلى، فهم به أن يقتله وهو صغير، وإذا برجل أبرص، وبرجل كذا، وكل يدعوه إلى الإسلام ويدعو له بالاسم الأعظم فيشفى.
حينها شعر الملك بمن يخالفه في مجلسه، إن قتله قالوا: قتل صغيراً، ماذا يفعل؟ أمر جماعة من جنده وقال: خذوه واذهبوا به في البحر، فإذا توسطتم اللجة فألقوه في الماء وارجعوا، لا يريد أن يتحمل تبعته، وهذا من الضعف.
فلما توسطوا وأرادوا إلقاءه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت -نفس الدعاء- فاضطرب القارب وتناثروا وسقطوا وبقي هو في القارب، ومن الغد إذا به في مجلس الملك يروي له ما حدث عندما أرادوا قتله، وأن الله أنجاني منهم، وكفانيهم بما شاء، قال: الله أيضاً؟ ثم جاء بجماعة آخرين كي يذهبوا به إلى قمة الجبل، قال لهم: إذا صعدتم الجبل فارجموه من قمة الجبل فلما ذهبوا به ووصلوا إلى القمة وأرادوا رميه قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل فتناثروا وبقي جالساً، ومن الغد جاء إلى مجلس الملك، ثم انتهى الأمر إلى ما تعلمون من قتله من كنانة الصبي.
إذاً: اللهم اكفنيهم بما شئت، قالها صلى الله عليه وسلم حينما جاء سراقة، ثم ماذا حدث لـ سراقة؟ يقول ابن كثير: فغاصت قوائم فرسه الأربع في الأرض، وكانت أرض صلبة وليست رملية، ولا طيناً تلزق، ولا ماء بل قاعاً صلبة جامدة، فإذا بها تتفتح لقوائم الفرس، وتنزل قوائم الفرس إلى أسفل، وفي بعض الروايات الأخرى: (فعثرت به فرسه، فسقط عنها، وما كان من خلقها)، وفي بعض الروايات: أخذ الأقداح وعمل القرعة، هل أدركه أو أتركه، فخرج (أتركه)، فلم يقبل لأنه يريد المائة من الإبل، والسهام التي يحملها وأقداحه في الجاهلية تقول له: اتركه، وهو غير قابل بهذا، فلما دنا غاصت قوائم فرسه في الأرض، أو عثرت به وسقط عنها.
المهم نادى: يا محمد! ادع ربك كي ينجيني مما أنا فيه ولن يصيبك مني أذى.
هناك عرف بأن لمحمد رباً أحسن من ربه، وعرف الحق، فلما دعا له النبي قام، فتعجب سراقة مما رأى، وقام يعرض عليهم الزاد فقالوا: نحن في غنى عن ذلك.
قال: خذ هذا السهم من كنانتي وستمر بغنمي، فاعرضه على الراعي وخذ من غنمي ما شئت.
قال: يغنينا الله عن غنمك.
ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (أتعجب يا سراقة من هذا؟ كيف بك يا سراقة إذا أنت لبست سواري كسرى؟ قال كسرى أنوشروان؟!) أمر مذهل ما استطاع سراقة أن يتحمل، فهذا شخص أخرجه قومه، كما قال الله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ويمكر به قومه، ثم هو وصاحبه فقط ويعد سراقة بأن دينه سيظهر، وأنه سوف يأخذ عرش كسرى، وأن سراقة يلبس سواريه.
هذا وقد اختفيت في الغار ثلاثة أيام، وأنت خائف من قومك إلى قوم آخرين يؤوونك، وتبحث عن مأوى جديد لدعوتك، ومع هذا تعدني بسواري كسرى؛ فقال: اكتب لي كتاباً بسواري كسرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب له يا أبا بكر، فكتب له) فرجع سراقة، وكلما رأى طلباً يطلب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ارجعوا اطلبوه في غيره فقد كُفيتم تلك الجهة، وانظر إلى التعبير في الحديث والصدق في الكلام؛ لأنه أعطى عهداً: لقد كفيتم تلك الجهة! هذا سراقة الآن يفي الله سبحانه وتعالى له بوعد رسوله، ففي زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يفتح الله على المسلمين المدائن، ويؤتى بلباس كسرى وله سواران من الذهب، وله تيجان وصولجان وأشياء عجيبة جداً، فنظروا فإذا هو لباس طويل لرجل ضخم، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يريد أن يراه كي يعطيه من يرتديه، فأخذوا يستقرئون الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة، فلبس والصك في جيبه، وتذكر: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى).
فلبس ورآه الناس، ثم قالوا له: انزع، فقال: لا، هذا أعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريق الهجرة، وأعطاني عليه كتاباً، أما عمر رضي الله تعالى عنه الملهم الذي يفر الشيطان من طريقه، كما في الحديث: (لو كان فيكم ملهمون لكان عمر) ونزل الوحي مصدقاً ومطابقاً لما قال عمر في عدة مرات، قال عمر: يا سراقة! إنما قال: (إذا أنت لبست) فقد لبست، وما قال تملكت، وأخذه منه عمر بالمحاكمة إلى كتابه، وعدك بأن تلبس فقد لبست، وكونك تلبسه لا يملكك، فانتزعه منه.
يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لـ سراقة: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى) وهذه لها نظائر كثيرة في السنة كما حدث في غزوة الخندق عند الكدية، وأشياء أخرى.