ثم توجه النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الأمة، وذلك كما أشرنا أنه صلى الله عليه وسلم واجه في المدينة تيارات متعددة بخلاف مكة، مكة كان أمامه فيها تيار الشرك والوثنية، وكانت أمة فطرية ساذجة قوية في عقيدتها، فإذا وجدت الحق سرعان ما انتقلت إليه، وتقدمت لنا النماذج والأمثلة في موقف عمر وحمزة وغيرهم.
عمر يذهب إلى أخته وزوجها لينتقم منهم ويعذبهم على إسلامهم، فيخرج من عندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، وما ذلك إلا أنه سمع من كتاب الله وقرأ من الوحي المنزل شيئاً من سورة طه.
وهكذا لما جاء مصعب بن عمير إلى المدينة مع أهل العقبة الثانية، وكان يزور الأوس والخزرج على مياههم وجاء إلى بني عبد الأشهل في العالية، وجاءه سعد بن عبادة وقال: اذهب عنا لا تفسدنّ علينا شبابنا ونساءنا وسفهاءنا، والحربة بيده، فما كان منه إلا أن قال: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تجلس وأسمعك مما عندي، فإن وجدت شيئاً تقبله فبها ونعمت، وإلا كففت عنك، قال: أنصفت -وهذا هو العقل- فجلس وقرأ عليه من كتاب الله، فما كان منه إلا أن شهد شهادة الحق.
وجاء سعد بن معاذ وقال: ما أغنيت عني شيئاً، ماذا فعلت مع الرجل؟ قال: قلت له الذي قلت لي، فقال: لم تغن عني شيئاً، وجاء بنفسه وهو سيد القوم، فقال جليس مصعب: اصدق الله في هذا الرجل، فإنه إن يسلم يسلم قومه كلهم.
فجاء متوعداً ومهدداً فقال له مقالته الأولى: تسمع فإن وجدت شيئاً يرضيك فبها ونعمت، وإلا كففت عنك؟ قال: أنصفت، فجلس وسمع من كتاب الله وقرأ عليه آيات؛ فما كان منه في الحال إلا أن قال: ما أحسن هذا! ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل غسل الجنابة ويتشهد شهادة الحق، فذهب واغتسل وتشهد وذهب إلى قومه وقال: يا معشر بني عبد الأشهل! ماذا تعرفونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وأميرنا، قال: كلامكم عليّ رجالكم ونسائكم حرام حتى تسلموا جميعاً، يعني: ذاهب يهدد ويتوعد فينقلب داعية إلى الله! كان الأمر عندهم عناداً، لكن الإقناع إن يسر الله كان سهلاً.
لكن كان في المدينة أصحاب ديانة سابقة، وأصحاب حقد وحسد: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] إذاً فيواجه عدواً لدوداً حاسداً حاقداً، والحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة التي عندك، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105].
فهنا وثنيون مثل الذين كانوا في مكة، لكن انظروا إلى اليهود فهم أهل كتاب، ثم نبتت نابتة نفاق، ويوجد أقلية مسلمة، فأصبح الآن جو المدينة مركباً من مسلمين قلة، ومن مشركين من العرب، ومن يهود من أهل الكتاب، ومن منافقين بين هذا وذاك، إذاً: كيف يواجه صلى الله عليه وسلم تلك التيارات ويضمن السلامة للقلة المؤمنة؟! كتب المعاهدة، ومن أراد من طلبة العلم أن يرجع إليها فهي في كتب السيرة لـ ابن هشام أو ابن كثير أو غيرهم، ومضمونها أنه صلى الله عليه وسلم جمع الجميع وقال: هذا كتاب محمد صلى الله عليه وسلم على أهل المدينة، أن كل قبيلة تحمل مسئوليتها، أي: أن كل فرد من قريش ومن لف لفها قومٌ ومن جنى منهم جناية فهم المسئولون عنه، والأوس قوم، ومن جنى جناية منهم فهم مسئولون عنه، وكذلك أهل الكتاب، وكل قبيلة حملها مسئولية بعضها البعض، أي: فإذا جنى إنسان جناية من قبيلة فقبيلته مسئولة عنه، يعقل بعضهم عن بعض، وهو الموجود الآن من أن دية قتل الخطأ على العاقلة.
ومن جنى جناية أو دفيعة ظلم فلا يحق لأحد أن يخفيه ولو كان ولد أحدهم، وما تنازعوا في شيء فمرده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ العهد على الجميع بأن الكلمة والمرجع في إدارة المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا: أمن شرور أولئك الطوائف وتلك الاتجاهات المتعددة، بعدما تم ذلك وأصبحت المدينة موحدة سياسياً.