من المسلمات: أن أهل السنة والجماعة بريئون مما وصفهم به خصومهم من كل الألقاب التي عيروهم بها قديماً وحديثاً، فقد وصفوهم بأنهم نواصب وهذا من الافتراء، ووصفوهم بأنهم مرجئة وهذا من الافتراء، ووصفوهم بأنهم أهل غفلة ودروشة وهذا لا شك أنه من أعظم الافتراء؛ لأنه لا يعقل أن يكون الملتزم بالدين من الدراويش؛ فوصفهم خصوهم بذلك لأنهم يتورعون عن المراء والجدل، ويتورعون عن الدخول في المشتبهات، ويتورعون عن مخالطة أهل الأهواء والفرقة، ويتورعون عن الدخول في مداخل السوء ومواطن الريبة، فوصفهم خصومهم بالغفلة وبالسذاجة بسبب ذلك، وإلا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأئمة الدين هم أصحاب مواقف تحتاج إلى علم راسخ وذكاء وقاد وعندهم مواهب فاقوا غيرهم من أولئك المغرورين المتعالمين من أهل الأهواء والبدع، وكلنا يعرف ما قام به أولئك السلف في الرد على الخصوم، بمواقفهم المشهودة نصر الله الحق، كل ذلك ناتج عن ذكاء ومواهب عالية خص الله بها أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
فـ ابن عباس لما ناقش الخوارج حاجهم بمحاجة شرعية وعقلية يندر أن يوجد مثلها في التاريخ، وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك عبد الله بن عمر وغيره واجهوا القدرية بالحجة، كذلك الأئمة الأربعة من أئمة المسلمين وعلى رأسهم الإمام أحمد عندما قامت الجهمية المعتزلة بفتنة الناس بأن يقولوا بالكفر تصدى لهم بقوة الحجة والبيان، ولم يعجز من أن يرد عليهم بأساليب شرعية، لكنه تفادى المراء والجدل، وقد ذكر التاريخ مواقف أئمة السنة، وأنهم وهبهم الله من المواهب والذكاء والفطنة بخلاف ما يصفهم به خصومهم من أنهم أصحاب دروشة إلى غير ذلك، وهذا لا شك أنه من الجهل والبغي.
كذلك التكفير والتفسيق والتبديع والسب والشتم والأخلاق الرديئة لم يعرف بها أئمة أهل السنة والجماعة، بل هم على درجة من الأخلاق والأدب والتورع عن التكفير، إلا من حكم الله بكفره واقتضت النصوص بيانه من مقالات الكتب ولتحذير الأمة منه، وهذه المسألة من المسائل التي أثارها بعض من ينتسب إلى الإسلام في الآونة الأخيرة، زعم أن من سمات السلف كثرة التكفير والتبديع والتفسيق للخصوم، قاتله الله أنى يؤفك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
على أي حال أهل السنة والجماعة يكفرون من كفره الله ورسوله، ويحكمون على المقالات الكفرية بأنها كفر، سواء كانت عقائد أو أعمالاً، وأيضاً من قامت عليه الحجة ممن وقع في بدعة وانحراف يبينون خبثه ويحذرون منه، وكان السلف بناء على الأمر الشرعي الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم به في الحديث الصحيح: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، كانوا يحذرون كل الحذر من تكفير المعين، لكنهم بينوا أحوال الكفر، وبينوا سائر الكفر والكفريات من أهل البدع، وكذلك بينوا البدع وبدعوا من عمل بها في الجملة، وكفروا من عمل بخبث في الجملة، لكنهم قل أن يكفروا المعين، أكبر قضية يمكن نجد فيها البرهان على ذلك قضية المعتزلة والجهمية في وقت المأمون من القول بخلق القرآن وهي كفر، ومع ذلك تصدى لها السلف وتكلموا فيها كلاماً مشهوراً في المحاضرات والمحاجات والخصومات، وتكلموا فيها بالكتب والمؤلفات والرسائل، ومع كثرة أهل الباطل في ذلك الوقت نجد أنه يندر أن يكفروا معيناً ممن قال بهذه الفتنة، رغم شهرة القضية وقيام الحجة فيها.
كذلك مسألة التفسيق والتبديع ليست من سمت السلف، لكن التزموا شرع الله عز وجل ببيان أحوال الفسق والبدعة والكفر؛ لتحذير الأمة منها ولإقامة الحجة على أصحابها، لعلهم يرجعون، فلا بد من بيان أحوال الكفر والفسق والبدع إذا كثر أصحابها، ولا شك أنه مع كثرة الفرق والابتداع والأهواء في الأمة كثر الفسق والبدعة والكفر، فأكثر السلف من النهي عنها، وهذا أمر تقتضيه النصيحة لله عز وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهي من مسلمات الدين.
فمن مقتضى النصيحة بيان أحوال الكفر والفسق والبدعة والتحذير منها، وبيان أحوال أهل الفسق والكفر والبدعة والتحذير من التلقي عنهم؛ فإن ذلك من النصيحة التي أوجبها الله، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما عمله السلف هو الواجب عليهم، أفيكون ذلك عيباً فيهم؟ ومع ذلك قد يقع في بعض السلف شيء من الجهل والظلم، وقد يقع من بعض أفراد السلف اعتداء في الحكم بالكفر والفسق، هذا يقع من أفراد وهي زلات، وليست هي المنهج الذي سطروه، أما ما حدث من بعض أفرادهم فليس هو الدليل، ومن سلك مسلك الانتقاء بمثل هذه الأمور بألفاظ وبنقول مبتورة فسيطعن في القرآن نفسه، أليس الله عز وجل قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]؟ وقد فعل هذا بعض الزنادقة، قال: أنا يكفيني قوله عز وجل: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) إذاً أنا منهي عن الصلاة.
فهذا استعمل الدليل على غير وجهه، وهذا أسلوب ال