الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله عز وجل فضل هذه الأمة بهذا الدين، وأكرمها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيها، وجعلها آخر الأمم وأفضل الأمم في الدنيا والآخرة، ثم إن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين إلى أن تقوم الساعة، وتكفل ببقاء طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة، ووعد الله حق وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم صدق، لكن قد يبتلي الله بعض عباده، وقد تتقلب أمور الأمة من حال إلى حال، من قوة إلى ضعف ومن ضعف إلى قوة، وجعل الله عز وجل أسباب قوة المسلمين واجتماعهم وعزتهم بالتمسك بدينه، وهذه حقيقة كبرى جهلها كثير من المسلمين اليوم ولاسيما العرب، وغابت عن أذهان بعض الدعاة والمصلحين، هذه الحقيقة هي أنه لا عز لهذه الأمة ولا رفعة ولا نصر في دينها ودنياها إلا بالتمسك بهذا الدين.
نعم، قد ترقى أمة من الأمم الأخرى الكافرة وقد تعتز وقد تقوى إلى حين بأسباب الدنيا، أما هذه الأمة فلن يكون لها عز ولا رفعة ولن تخرج مما وقعت فيه في العصور المتأخرة من حال الذل والهوان والفرقة والشتات والفتن التي بدأت تتوالى يوماً بعد يوم لن تخرج الأمة من هذه الحال إلا بالعودة إلى دينها وباللجوء إلى الله عز وجل حق اللجوء والاستمساك بدين التوحيد والاجتماع على السنة والجماعة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبجمع الكلمة على الحق والهدى، وبتثبيت الأجيال على مسلمات الدين التي هي معقد العز بتوفيق الله عز وجل.
مسلمات الدين سأشير إلى شيء منها فقد غفل عنها الكثيرون لاسيما في مثل هذه الظروف التي كان يجب على الأمة أن تعرف موطن الداء وتعرف أين الدواء، وهو موجود بين ظهرانيها في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي نهج المؤمنين الذي هو سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه فقال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، ولما حادت كثير من طوائف الأمة عن سبيل المؤمنين ولاها الله عز وجل ما تولت ووكلها الله إلى أسبابها الضعيفة، وكلها الله إلى غير حول ولا قوة إلى قوة وحول العباد الضعفاء فوقعت فيما وقعت فيه.
وأعيد وأكرر هذه المسألة وهي مسألة أنه غفل كثير من الدعاة والمصلحين وكثير من المفكرين والساسة وغيرهم عن هذه الحقيقة الكبرى، فراحوا يلتمسون أسباب العز عند الخلق، وراحوا يلتمسون أسباب القوة عند من لا ينصح لهذه الأمة ولن ينصح.
قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فمن أراد للأمة العز والرفعة وجمع الشمل فعليه أن يلجأ إلى هذه الحقيقة، وعلى هذا فإن حال الأمة اليوم يعتبر من الأحوال التي لم تمر بها في تاريخها، والله أعلم.
ولاسيما الفرقة والشتات والإعراض عن دين الله.
فالأمة تعيش اليوم واقعاً لم يحدث مثله في التاريخ، ولا يعني ذلك اليأس من رحمة الله؛ فإن أسباب العلاج وإن أسباب العز موجودة في الأمة، وهي نفسها تحمل الدواء لكنها لم تدركه، ولم يدرك هذا الدواء إلا القليل، نعم مرت الأمة بفتن كبار في تاريخها الطويل وامتحان من الله عز وجل، وكانت الأمة تتجاوز هذا الامتحان في كثير من أحوالها، أو على الأقل طوائف من هذه الأمة تتجاوز هذا الامتحان باللجوء إلى الله عز وجل والاعتصام بكتابه والأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتحقيق المسلمات الكبرى وعلى رأسها الجماعة، وهي مرجعية العلماء.