السبب الأول: الخلل في منهج التلقي والاستدلال، تجد الواحد منهم يستدل بأدلة قوية صريحة من القرآن والسنة، فالإنسان الذي يجهل منهج الاستدلال يسلّم؛ لأنه يتلو عليه آية، لكن أسلوب تطبيق الآية على الواقعة هي المزلّة التي تحتاج إلى الراسخين في العلم في القضايا الكبرى والمصالح العظمى، فالخلل في منهج التلقي والاستدلال يعتبر من أعظم أسباب انتشار الشبهات، خاصة شبهات الغلو والتكفير وغير ذلك على الذين اغتروا بها.
أيضاً هذا المنهج نفسه سبب رئيس في ظهور مظاهر الانفلات والعلمنة، وضعف الولاء والبراء، وما يسمى بالليبرالية وغيرها من التوجهات الآن التي اجتذبت عدداً كبيراً من شبابنا، نحن الآن نعيش غوائل تيارين خطيرين، كل منهما شر، أنا في تقديري -وربما تستغربون- أن الأخطر منهما على المدى البعيد: هو تيار العلمنة والإعراض عن دين الله، هو تيار الليبرالية، هو تيار العقلانية المميعة، الذين يريدون أن يكون المسلم كالأوروبي والأمريكي، ولكنه يحمل شعار الإسلام واسمه فقط، كما يقولون: مظهر بلا مخبر، مع أنه إذا اختل المظهر اختل المخبر لكنهم يجهلون، هذا أخطر على المدى البعيد؛ لأنه يؤسس على فكر مقنن ودعوة هادئة، وينساب إلى الشباب عبر أساليب ومصطلحات وألفاظ يغتر بها أكثرهم، ولأنه يحمل معنى التنوّر، والثقافة، والفكر، والحرية، والرأي والرأي الآخر، والإنصاف، والعدل، والتجرد العلمي، يحمل شعارات خادعة فعلاً، ولأنه لا يستعجل، بل يهمه النتائج ولو بعد عقود، لا يهمه أن ينجح بعد سنتين أو ثلاث أو عشر، فهو ينخر في عقل الأمة منذ أكثر من عقد في جميع بلاد المسلمين.
أما الاتجاه الآخر فصحيح أنه خطير، وهو الذي نعانيه الآن، وهو اتجاه التكفير واتجاه الغلو، لكنه مثل نار السعفة إذا أوقدت فيها دقيقتين ثلاث دقائق تنتهي، صحيح أن الغلو استمر عندنا بعض الوقت، ولم أعلم أن الغلو في العصور الماضية يكون له مثل هذا الانجذاب، لكن هذا له أسبابه، أهمها ذنوبنا، يجب أن نعترف، لكن ومع ذلك ينتهي الغلو، وليس له حبل طويل، ليس عنده إستراتيجية بعيدة المدى؛ لأن صاحب الغلو نظرته بين رجليه لا يتعداها، وصاحب الغلو ينتهي ويَهْلَك؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأهواء والبدع في جملتها وحذّر منها وحذّر من السبل، لكنه ما أمر بقتال أحد غير الخوارج؛ لأنهم يهلكون الحرث والنسل باسم الإصلاح، أي: أن الذي يدعو الآن إلى الليبرالية أو العلمانية أمره واضح ونفاقه واضح، حتى الذين ليس عندهم تدين يدركون أن هذا الليبرالي أو العلماني يستهدف الفضيلة وكرامة المرأة، ويستهدف ظهور الفجور والمعاصي، ويدندن حول إشاعة الشهوات أمره واضح، لكن الخوارج وأمثالهم على مرِّ التاريخ يحملون شعار الدين والغيرة، ولذلك يقلبون عقول الشباب المتدين خلال دقائق وساعات، خلال جلسة واحدة يتحوّل الشاب الذي يستهدفونه من شاب هادئ رقيق محترم إلى شخصية عدوانية شرسة، باسم الحرقة على الدين، فينفخونه مثل: نفخ البالون فينفجر.
إذاً: شبهات الغيرة على الدين خطيرة جداً؛ لأنها تحمل مضامين الانتصار للإسلام وللعقيدة، لكن العبرة بالعمل، ولذلك كثيراً ما تأتي أسئلة حينما أتكلم عن بعض رءوس البدع والمشاهير، ونقول: منهجهم غير سليم، يقول: أنت تتهم نيته؟ أقول: يا أخي أنا لا أستطيع أن أتكلم في نيته، ولا اطّلعت على قلبه، ولا يعلم النية إلا الله عز وجل، لكن هناك شرط آخر وهو صلاح العمل وليس صلاح النية فقط، فلا بد أن تصلح النية ويصلح العمل، فهؤلاء دعاة التفجير ودعاة التكفير، ودعاة الفساد في الأرض باسم الجهاد الذين يستحلون دماء رجال الأمن، ويستحلون دماء المخالفين لهم، والذين انتهكوا موبقات باسم الغيرة على الدين، نقول: هؤلاء عالجوا الخطأ بخطأ، نحن نتفق وإياهم على كثير من أمور العقيدة، خاصة الذين هم أهل سنة، نتفق نحن وإياهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نتفق وإياهم على ضرورة الإعداد للجهاد، نتفق وإياهم على أن الأمة بحاجة إلى تغيير إلى الأحسن، بحاجة إلى أن نصحح الأخطاء، نتفق وإياهم على ضرورة دفع الباطل، لكن الكلام على الأسلوب، ما يدفع المنكر بمنكر، بعض الناس إذا جئت له بالدليل قد لا يفقه الاستدلال، لكن عبر التاريخ يفهمها الصغير والكبير والمتعلم والعالم، على مدى تاريخ هذه الأمة، كم من طوائف غيورين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا استعملوا العنف لإنكار المنكرات، ثم يؤدي الأمر إلى تجذّر المنكرات واستفحالها وزيادتها، ويؤدي الأمر إلى فساد أعظم، ألا نعتبر؟ هل يمكن أن يزال المنكر بالتكفير والتفجير، واستهداف رجال الأمن، واستهداف المنشآت السكنية، واستهداف المستأمنين من الكفار الذين يعيشون في بلادنا، ودخلوا بتأشيرات رسمية هم في ذمتنا وذمة الدولة؟ هل استهدافهم هذا يؤدي إلى إنكار المنكر وإقرار المعروف؟ وهل أدى إلى إنكار شيء من المنكر؟ بل العكس، وأي إنسان عاقل فضلاً عمن يتقي الله ويخافه أي إنسان عاقل فضلاً عمن يتق الله ويخافه، يعرف أن الفساد لا يُدفع بفساد ولا يُدفع بالقتل والإهلاك، ي